إذا كان الصراع في سورية ذا مستويات ثلاثة، مستوى محلي ومستوى إقليميّ، ومستوى دوليّ، فإن للدوائر محورًا ينظمها هو كونها صراعات يغيب فيها الفاعل الأساسي للثورة السورية، وهو الثائر السلميّ الذي طمح عندما خرج متظاهرًا أن ينال حريته وكرامته وحقه في العيش الكريم.

فالصراع المحليّ هو بين طرفين مسلوبي القرار: هما النظام السوريّ الذي تمده إيران وروسيا بأسباب الحياة، ومعارضة إسلامية مسلحة مرتهنة لقوى إقليمية.

والصراع الإقليميّ: قطباه الأساسيان هما تركيا وإيران اللذان يعانيان اضطرابات داخلية تحرض على طرق أبواب للتفاهم؛ خشية من خطر التصعيد الذي ينذر بأخطر النتائج.

والصراع الدوليّ وقطباه هما الولايات المتحدة الامريكية التي تصرّ على أن تكون صاحبة القول الفصل في العالم عمومًا، وفي الشرق الأوسط بشكل خاص، وروسيا والصين اللتان تحاولان لجم الطموح الأمريكي، واحتلال موطئ قدم فاعل في سياسة دولية متعددة الأقطاب.

إذا كانت هذه هي مستويات الصراع، فإن الاستبشار بالتصريح الأمريكي الأخير عن قرب انتهاء حكم عائلة الاسد لا ينبغي أن يذهب بعيدًا؛ لأنه لا يمثل أكثر من ورقة تفاوضية تحاول من خلالها الولايات المتحدة أن تمنع وجود اسد أعيد تصنيعه وفق المقاييس الإيرانية، وهو واقع ترفضه روسيا، ولكنها لا تجد بدًا من الدفاع عن هذا الأسد في سياق تنافسها مع الولايات المتحدة على المكاسب في سورية.

والمفارقة أن الأمريكان والروس وإيران مع تابعها يتسابقون للوصول إلى البوكمال معقل داعش الأخير التي تمثل بالنسبة إلى الأمريكان الموقع الذي تمنع السيطرة عليه حلم إيران برسم الخط الممتد من إيران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق، وبالنسبة إلى الروس لجمًا لإيران وموطئ قدم لا بد من وجوده لمنع المنافس من الاستئثار بالثروة في شرق سورية.

وبهذا أصبحت البوكمال المنسية عبر عقود الاستبداد الأسدي هدفًا يتنافس في الوصول إليه المتنافسون.

وهو الحال الذي لأجله تتوافق القوى المتصارعة حول سيناريو معين لإدلب، فالأتراك يريدون تأمين حدودهم من دون تصعيد مع غريمهم الإيراني في سورية، وهم مستعدون لإظهار مرونة كبيرة في التعامل مع الروس والإيرانيين، وحتى مع النظام السوري في سبيل منع قيام كيان كردي على حدودهم.

وهو ما يجعل إدلب المنسية، والتي دمرت طاقتها الإنتاجية الزراعية بفعل سياسات نظام الأسد الأب والابن على مراحل مختلفة بؤرة تنفيذ إرادات إقليمية ودولية.

تضيق زاوية النظر التي ينظر من خلالها صانعو الحدث السوري حتى تصل إلى مدينة صغيرة في عمق الشرق السوري، ومدينة صغيرة في عمق الشمال السوري بينما تهمل الساحات السورية الأخرى لأن حلًا بخصوصها لم ينضج بعد.

لعل المدينيتن المنسيتين بعودتيهما إلى ساحة الحدث تثأران من عقود النسيان، ولعل في تموضع إرادات أقطاب الصراع فيهما دليلًا على مخاتلة تاريخية هيجلية، فقد أبتا بحضورهما الذي تنوعت أشكاله خلال السنوات المنصرمة إلا أن تكونا معبرتين عن كل صور التناقض التي تسم المشهد السوري.

عبر مواطن سوري بسيط في مقطع صوتي عن حيرته الشديدة من تهافت كل القوى المؤثرة في الساحة السورية على التوجه إلى ادلب ووصل الى استنتاج غير أكيد إلى أن السبب هو قرب موسم الزيت في إدلب، وإذا كانت النكتة هي فلسفة الحياة عند العموم، فإن دلالة استنتاجه الأخير يمكن أن تكون أن بلد الخير هذا بمنتجه الفاخر الذي ظلم عقودًا على يد عصابة بربرية لا يزال موجودًا، وما انفجر في ساحته من تناقضات تمثل تعقيد المشهد السوري كله لم ولن يغيب البركة التي حبته إياها السماء.

لن نستبشر بالتصريح الأمريكي خيرًا، ولكننا سنظل متفائلين بعظمة مدننا المنسية، وقدرتها على نفخ الحياة في الثورة من جديد بخيرها، وتنوعها، وروحها التي عبر عن جمالها ذلك المواطن الذي لم يجد سببًا لتسابق القوى المتصارعة  على إدلب إلا زيتها المبارك.

رئيس التحرير