لا نجانب الصواب إذا قلنا: إن من سميت وجه الدكتاتورية الجميل أسماء الأسد هي الأنموذج الذي استطاع تجسيد القدرة على التوليف بين الوجه المدنيّ الحضاريّ الغربيّ، والوجه القبيح الديكتاتوريّ، ففيها تتجسد المفارقة بين شعارات الغرب، وممارساته عندما يتعاطى مع شؤوننا.

ولعل في ما يأتي ما هو كفيل بتوضيح ذلك.

مع انطلاق ثورات الربيع العربي لم يكن يدور في خلد الثائرين -ومعظمهم من الشباب- أن الحرية تحتاج إلى ما هو أكثر من الدم، ولم يكن من الممكن تصور أن ثمة ثمنًا أكبر يجب أن يدفع؛ لكي تحصّل حقًا أساسيًا من حقوقك كإنسان.

ولكن مآلات الثورات في معظمها قد أثبتت أن الدم المسفوح على مذبح الحرية لا يعدو أن يكون سلعة تباع وتشترى في مزاد تعقده وتتصارع فيه إرادات إقليمية ودولية.

وأن مطالب الشعوب لا تعدّ مطالب مشروعة في نظر المتحكّمين بالسياسة الدولية، ومحتكري صياغة سيناريوهاتها.

فليست الديموقراطية حقًا لشعوب الأطراف، وخصوصًا إذا كان موقعها في العالم يجعل من مقاربة شؤونها مقاربة لا صلة لها بأية قيمة إنسانية، ويقيّد هذه المقاربة بحسابات نفعية بالغة الضيق.

لا يمكن لوم من اعتقد أن تقديمه الدم ثمنًا لحريته على غفلته عن هذا الواقع، ولكن لا يمكن بالمقابل إعفاء النخب من مسؤوليتها عن الجهل بهذه الحقيقة، وخصوصًا أنها نخب لا تستمدّ نخبويتها إلا من انتمائها لتيارات ذات بعد أيديولوجيّ مفارق؛ بمعنى أنه من المفترض بسبب ارتباطها الأيديولوجي بمنظومات مخارجة لمنظومات بيئاتها أن تكون مدركة لما يحفّ هذه المنظومات من متغيرات وثوابت، وما سبق تشكلها، ورافقه، وانبثق عنه من تجلّيات سياسية.

فليست الدولة – الأمة في الغرب التي أصبحت أنموذجًا يستشرفه قسم كبير من النخب دولة عادلة إلا داخل حدودها، وليست الديموقراطية التي حوّلها الكثيرون من أفراد هذه النخب إلى أيديولوجيا إلا اختراعًا يعتقد أصحابه أنه ليس صالحًا لشعوب بربرية كانت وستبقى خارج فلك المركزية الغربية التي تتمحور حول خطّ ممتد من الإغريق إلى أوروبا وصانعي العالم الجديد.

ربما كان الانتماء الأيديولوجي الذي لا يعدّ مفارقًا لموروثه من بين الانتماءات الأخرى هو الانتماء الإسلاميّ، والذي يسبب الضرر الأكبر لمعاناته مفارقة من نوع آخر هي مفارقته عصره، ونكوصه إلى فضاء يجعله طارئًا بدل أن يكون الأكثر أصالة.

والغرابة أن حال الغفلة تتكرّس أكثر مع استحكام حلقات المأساة العربية عمومًا والسورية بشكل خاص، فلا تزال تسمع صخبًا أيديولوجيًا بين أسرى المنظومات المغلقة، ولا تزال تتلمس مراوغة يعمد إليها من يدعون الحنكة السياسية عن طريق دعوات إلى حوارات تُستولد من جوفها مشتركات، ثم لا تلبث أن تفصح عن تخندق قديم يستثمر الحوار للقضاء على خصومه الألداء من التيارات الأخرى، مدفوعًا صاحبه بقناعات متكلسة لا تقوى لا المأساة، ولا المتغيرات الأخرى على كلّ الأصعدة على إزالة الصدأ عنها.

لا يبعد عندنا أن الحال التي وصلنا إليها في سورية نتيجة طبيعية للصورة البائسة التي ذكرناها كعامل من عوامل أخرى ذات قدرة تفسيرية، وهو أيضًا قادر على تفسير التذرع بالواقعية لفرض الهزيمة على الثورة السورية، والتماهي مع القوى الكبرى في الاقتناع أن الدماء التي سفحت ليست ثمنًا كافيًا للإطاحة بالمستبد وزمرته ونظامه.

إن مغالبة الحقيقة للواقع هي ما يجب أن نناضل لأجله، وإن كشف القبح الذي يتخفّى خلف الوجه الجميل هو مهمة أساسية من مهامنا، ومن حسن حظنا ربما أن لدينا أنموذجًا متجسدًا لهذا القبح ذكرناه في البداية يجعله فرضية متعينة، وواقعًا ينبغي لأصحاب الحق أن يبذلوا كلّ ما في وسعهم لتعريته، وفضحه، والخلاص منه.

 

رئيس التحرير