الاستفتاء المزمع إجراؤه في إقليم كردستان يثيير مخاوف البعض ويستبشر به البعض الآخر، وهو حدث لا يمكن وصفه بالجلل، ولكنه من دون شك حدث جدير بالاهتمام.

وبعيدًا عن المبدأ الأساسي المتمثل بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، والذي أصبح فزاعة يرفعها صادقون ومنافقون ومتكلّفون، فإن الخائف الأكبر منه وهو إيران  يصدر عن نزوع امبراطوريّ إبرانيّ يستثمر التعصّب الطائفي؛ لكي يحقق حلمًا بهلاله الشيعي، وهو حلم يمكن جدًا للدولة الكردية المستقلة أن تجهضه، أو تتبقيه في طور الحلم العصيّ على الاستحالة إلى واقع.

والمستبشر خيرًا ويمثله بالدرجة الأولى النظام السعودي يصدر عن نزوع العاجز إلى فاعلية مخارجة له تكبح التوسع الإيرانيّ.

وبين الطرفين الطائفيّ الامبراطوريّ الطامع، والتابع العاجز من يرحب طمعًا بمكاسب اقتصادية، و من يتوجّس خيفة من خسران مكاسب مماثلة.

فالأتراك يصعّدون إعلاميًا ضد الاستفتاء، بينما لا يتخذون، ولا يزمعون أن يأخذوا موقفًا سلبيًا منه، لأنه كفيل بتحقيق مكاسب اقتصادية ليست بالهينة.

وحكومة بغداد تتوجّس خيفة منه؛ لأنه -عدا عن أنه خوف مشتقّ من خوف سيدها الإيرانيّ- قد يذهب بفوائد جمة تجنيها من أراضٍ قد تخسر سيطرتها عليها جراء فرض الاستقلال واقعًا.

والحق أن مناقشة الأمر انطلاقًا من مبدأ الحق في تقرير المصير مجردًا لا يعدو أن يكون مثالية متعالية على الواقع في أحسن الأحوال، أو تكلفًا مشبوهًا في أسوئها.

الأنظمة العربية التي لا ترى ضمانًا لبقائها  إلا ببقاء الوضع الجغرافي الذي صنعه الاستعمار الغربيّ، ولهذا تقف في وجه أي محاولة لتغييره، ويصل بها الأمر إلى تمويل الاستعمار الذي دفع أسلافهم الدم في سبيل التحرر منه، نقول إن هذه الأنظمة وحالها هذه لا يعول على ترحيبها بالاستفتاء والاستقلال للإقليم فأنظمة كهذه لا تحكم دولًا بالمعنى العلميّ لمفهوم الدولة، وإنما تدير محميات محكومة بالدبابة، وهي إذ ترحب بالحدث فهو ترحيب العاجز عن تحقيق عنصر أساسيّ من عناصر تحقق الدولة، وهو قدرتها على الحماية والرعاية.

حماية حدودها، ورعاية شعبها عن طريق تحقيق برامج تنمية مستقلة.

والنظام الإيراني الثيوقراطي لا يمكن احترام  خوفه، -وإن كان يستحق النظر إليه بجدية أكثر من النظر إلى موقف الأنظمة العربية الكرتونية لأنه صاحب مشروع-؛ لأنه خوف صادر عن الحرص على استكمال مشروع توسعيّ لا يأبه لمصالح الشعوب، ولا لتوطيد السلام والأمن، ولا لما  قد يجره مشروعه على شعبه من مخاطر على المدى البعيد.

أما أطراف البين بين فهي تختزل القضية إما ببعد مطامع اقتصادية، أو بخوف منعكس من خوف السيد، ولهذا يصبح تعاطيها مع الحدث قاصرًا وأنانيًا.

إن السلطة والشعب والأرض لا تصلح أن تكون عناصر كافية لصياغة معادلة الدولة ما لم يصل بين الأرض والشعب عنصر الانتماء، وهو عنصر رابع في المعادلة بالغ الأهمية وأساسيّ، وما لم يصل بين السلطة من جهة والأرض والشعب من جهة أخرى عنصرا الحماية والرعاية اللذان تحدثنا عنهما، وهي الصلة التي تمثّل العنصر الخامس في معادلة الدولة.

ولما كان استقلال الإقليم لا يمكن أن يكون من دون فرض واقع جغرافي جديد على جزء من الشعب لا يقبله فإن عنصر العلاقة بين الأرض والشعب سيحذف من المعادلة، ولما كان الاستقلال في ظل الظروف الحالية لا ينبئ أبدًا بقدرة السلطة الحاكمة على تحقيق الرعاية وهي تمر في ظروف اقتصادية بالغة السوء بسبب الفساد المستشري في سلطة الإقليم، ولا بقدرتها على حماية حدودها بين أطراف إقليمية كبرى قادرة على خرق حدودها وتهديد سمائها متى  أرادت، فإن عنصر العلاقة بين السلطة من جهة والأرض والشعب من جهة أخرى سيحذف من المعادلة أيضًا،  ما يعني أن الدولة المنشودة ستكون دولة زائفة تضيف إلى محميات الدول العربية محمية جديدة.

لا نردد شعارات رفض التقسيم كما يرددها غيرنا على أنها ثوابت أزلية أبدية، ولكننا نزعم أن مطلب الاستقلال لن يحقق حلم تقرير المصير، ونهيب بالساعين إليه ألا يخدعوا بتصفيق العاجزين، ولا يستهتروا بخوف الطامعين.

إن الفدرالية يمكن أن تكون أفضل الحلول، ولكنها تحتاج إلى ما هو أكثر من الحلم، وما هو أكثر من طموحات شخصية لهذا الزعيم أو ذاك.

رئيس التحرير