إن مفهومًا سياسيًا ما مهما كانت درجة تماسكه المنطقي لا يمكن أن يأخذ فرصته في الوجود والاستمرار ما لم يكن من ضمن متغيّراته طبيعة المجتمع، ومنظومته الأخلاقية، وأعرافه وموروثه، وسيرورة تشكله التاريخية.

فمفهوم المواطنة له الأسبقية على فصل الهويات العمومية عن الخاصة في المجتمعات التي تبنت هذا الفصل، ولا بد أن له الأولوية لدينا، ولكنها أولوية مشروطة بظرفنا التاريخي، كما كان هذا المفهوم مشروطاً في تشكّله بالسيرورة التاريخية للمجتمعات التي تكرّس فيها.

ولأن مفهوم المواطنة يقتضي -لكي يتجذر- ممارسة تنزل به من عالم المثل، وتصيّره جزءًا ماهويًا من مكنونات الوجدان، وتسمو به بذلك إلى مصافّ مقدّس جديد بديل عن المقدسات الأخرى، أو على الأقل متفوق عليها في المكانة، فإن هذه الممارسة والسياق التاريخي الذي تتمظهر فيه شرطان رئيسان لتمثل المفهوم، وحمل كلام رافعي شعارات الوطنية على محمل الجدّ.

إن أفرادًا معدودين يمكن أن يتحلّوا بحسّ أخلاقي رفيع، ونبل إنساني نادر يمكن أن يكونوا من القادرين على تقديم المصلحة العامة على الخاصة، فمن طبيعة الأشياء أن القيم العمومية لا تجد صدى متعينًا لها ما لم تحدث نفعًا ملموسًا للناس.

ولذلك تجد من يتغنون بشعار الوطن في المشهد السوري، أضعف الأطراف تأثيرًا في السوريين، وتجد مستثمري المقدس الدينيّ أكثرهم تأثيرًا، فرافعو شعار الوطن الصادقون، وهم ثلة قليلة لم يتمكنوا من تجذيره في حيز واحد مع المقدسات الأخرى على الرغم مما قدموه في سبيله من تضحيات عظام، فضلًا عن جعله بديلًا، بسبب غياب الشروط التي ساعدت غيرهم في سياقات أخرى.

والمتاجرون به -وهم الأغلبية- لم يتمكنّوا بطبيعة الحال من إقناع الجمهور بمصداقيتهم، وخصوصًا أنهم في كل محطة كانوا يثبتون أنهم ليسوا أكثر من تجار صغار يعملون لمصلحة تجار كبار.

أما من تقاسموا مع المخلصين فقدان الشروط الأساسية، ولم يكونوا في درجة ابتذال تجار الدم فتراهم؛ لعجزهم عن التأثير بسبب فقدان القدرة على تمثل مفهوم الوطنية، يسرفون في المزاودة على الجميع، ويبالغون في السلاطة والسفاهة خصوصًا على الثلة القليلة التي يعجزون عن إنكار تاريخها، بذرائع واهية فمرة يتهمونها بقصور الوعي السياسي، ومرة بعدم امتلاكها أدوات تواكب الحدث، وأخرى بعدم تمثل الديموقراطية.

ولأن التباس الرؤية، وغياب اليقين لا بد أن يفصحا عن نفسيهما شاء حاملهما أم أبى، فإن الممارسات اللاأخلاقية التي يمارسونها على مستويات أقل من المتاجرة بالدم لا تلبث أن تكشف عن هذا الالتباس وهذا الغياب، في تجلّ واضح لضعف الروح، وعدم اكتمال أخلاق الرجولة.

ولأن مستوردي المفهوم من دون تمثله كما ينبغي، يريدون استنباته في غلافه الأصلي من دون تبصر بالسياق الذي يراد استنباته فيه، ومن دون تكييفه تكييفًا يجعله صالحًا لهذا السياق فإنهم يرغون ويزبدون، عندما يخاطب أحد المشهود لهم بالوطنية من يعدون أنفسهم ممثلي المقدس الدينيّ طالبًا منهم أن يجعلوا الوطنية شعارهم، وأن يحذوا حذو أسلاف لهم كانوا خير أنموذجات لها، ويهيج هائجهم لهذا الخطاب، لأن المطلوب من جانبهم قسر الواقع وفق قوالبهم، وجعله متنفسًا لعقد محكمة العرى في دواخلهم.

نتوق إلى جعل الجامع الوطني جامعنا الأساسي، وإلى الارتقاء به إلى مصاف المقدس، ويمكن لنا أن نفعل ذلك باستثمار حصيف لموروثنا، لا بمحاكاة تجارب غيرنا التي لا تشيه تجربتنا، ومن المهم كذلك أن نسعى وفق ما تتيحه الطاقة البشرية لجعل الأخلاق قاعدة أساسية لسلوكنا، وألا نرفع العقيرة بحب الوطن، ونحن منسلخون عن أبسط المثل الأخلاقية.

إن الثلة القليلة التي جئنا على ذكرها في البداية لم تحارب المقدس الأساسي في المجتمع، وحاولت قدر استطاعتها أن تجعل السلوك الأخلاقي ميزة لها، ولم تبخل بتقديم العمر والدم في سبيل قضية الحرية، وحاولت جاهدة أن تطور الخطاب وفك الانغلاق داخل المنظومة المغلقة، ومن المضحكات أن من بعض من شاركوها تجارب الاعتقال يزاودون عليها لأن عديدها في المعتقلات لم يكن كبيرًا والحق أن التمسك بالمثل الأخلاقية هو الذي قلل عديدها وكثّر عدد المزاودين، وبيان ذلك أن الأخيرين جلبوا أصدقاءهم لتكثير عديدهم، بينما الأولون لم يشوا بأصدقائهم حرصًا عليهم وعلى ذويهم.

لا شك أن وطنيين مخلصين كثر موجودن في كل طائفة في سورية وفي كل تيار سياسي، ولكن أداء الظاهرين ومتصدري المشهد يلح علينا لمحاولة فهم سوء الأداء وقلق العبارة، وضعف الوازع الأخلاقي.

رئيس التحرير