لا شك أن حقائق معينة في اللحظة الحالية يمكن لها أن تشكل نقاط استناد لأي مراقب للأحداث؛ بغية فهمها واستشراف ما تستبطنه من ممكنات.

من هذه الحقائق أن الأولوية الأمريكية هي القضاء على داعش، وليس أي شيء آخر، ومنها أن الأولوية التركية هي كبح الجموح الكردي وبناء الحواجز بين الأكراد وبينها على الحدود التركية-السورية، العراقية، الإيرانية.

ومن الحقائق أن القرار السوري غائب عن المشهد، وأن كيانات المعارضة السورية بما فيها أحدثها، وهو هيئة التفاوض لا تتمتع بأي قدر من الأهمية فيما يرسم لسورية من سيناريوهات.

ولكن في المقابل يقع في المنطقة الرمادية الدلالات المتوخّى استخلاصها من وقائع أخرى:

فهل يمثل اتفاق مناطق خفض التصعيد مثل ما يقول البعض تقليمًا لأظافر إيران، أم مساهمة في رفع بعض العبء عن كاهلها وكاهل حليفها بعد أن كُسرت شوكة المعارضة السورية المسلحة.

ومن القضايا الغائمة مصير الشرق السوريّ والذي لا يُعرف مدى جدية الأمريكان في منع النظام وحليفه الإيراني من استثماره كامتداد لا بد منه لمشروع التوسع الإيراني، وسبب الحيرة أن الأمريكان قد أقدموا على استخدام القوة لمنع تقدم النظام وحليفه ثم عادوا إلى غض النظر عنه.

ومصير المناطق التي تحررها قسد، وهل ثمة اتفاقات -بغض نظر أمريكيّ- بين قسد والنظام لتسليمها للأخير؟ خصوصًا وأن الثقة الكردية بوعود النظام وحليفه الروسي في المساعدة في تحقيق حلم الكيان المستقل أكبر من الثقة بداعمهم الحالي الأمريكي الذي يرجح أنه سيتخلى عن حليفه في الحرب على داعش بعد استخدامه؛ لأن حلفاء استراتيجيين له بهمه أمرهم أكثر من الأكراد، هم خصوم أبديون للحلم الكرديّ.

أم أن اتفاقات لا يعرف كنهها بخصوص شرق سورية يجري الترتيب لها بين الأمريكان والروس في سياق التعويل الأمريكي على الروس في لجم الطموحات الإيرانية، والضغط على النظام السوري لقبول واقع جديد يضع الخطوط الأولية لتسوية سياسية؟

وما معنى الإصرار الأمريكي على جعل نقطة انطلاق قوات معارضة سورية مسلحة لتحرير دير الزور من الشدادي، وليس من التنف مع أن الانطلاق من الأخيرة أسهل بكثير؟

إن التفاؤل باتفاق مناطق خفض التصعيد لا يمكن ألا تنغصه مخاوف وتساؤلات؛ لأن الجذر خلف رمادية بعض الوقائع كامن في تصدر الروسي للمشهد، وانكفاء الأمريكي عن المساهمة المباشرة، وهو انكفاء يثير بحد ذاته تساؤلًا، فلا يُدرى أهو تخبط أمريكي سببه ضعف خبرة القيادة الجديدة والإرث الذي تركه لها أسلافها؟، أم سلوك طويل النفس يقصد به انتظار المآلات من أجل تحديد المصلحة النهائية وتحقيقها؟

ليس التصريح بالحيرة والعجز عن فهم بعض الأمور عيبًا مثل ما ظنّ الكثير من رموز المعارضة السورية في السنوات التي تصرّمت، وإنما يمكن للاعتراف بالتردد في الوصول إلى جواب حاسم أن يساهم في الوصول إليه أكثر من الادعاء بالإمساك بجميع الخيوط، وفهم دلالات كلّ الحيثيات.

في الصراع الذي يخوض غماره كرد يطمحون إلى كيان قوميّ، وروس يحلمون باستعادة المجد الامبراطوريّ، وإيرانيون لديهم الحلم نفسه، ولكن بأدوات أخرى أكثر إغراقًا في الماضوية، ونظام مستبد لا حلم لديه إلا التشبث بالسلطة إلى أبد غير موجود إلا في أوهامه.

في هذا الصراع الذي تكثر فيه مناطق الغموض طموح كرديّ نكوصيّ متخلف؛ لأن عالم ما بعد الحداثة قد تجاوز مفهوم وواقع الكيانات المكتفية بذاتها، ولكنهم لا يلامون؛ لأنهم أبناء سياق متخلف هم جزء من مكوناته، وطموح روسيّ باستعادة مجد القياصرة، ومجد العظمة السوفياتية، وهو طموح لا يمكن أن يتحقق؛ لأنه معاكس لطبيعة الأشياء، وهي طبيعة ثبت أنها لا تقبل فرض أنموذج ثابت مفارق طوباوي على حركتها الاحتمالية غير القارة على حال، وطموح إيرانيّ يستخدم أكثر الأدوات والشعارات تخلفًا وعنصرية في مسعى لفرض هيمنة بواسطة الإيديولوجيا، وهو ما دونه خرط القتاد ليس لأن الأيديولوجيا لا يمكن لها بحكم زيفها أن تدوم، ولكن لأن الفصل القاطع بين الحق والباطل الذي يحمله المشروع الطائفي الإيراني فصل افتراضي لا يمكن للواقع أن يُقسر عليه.

أما طموح النظام فهو طموح بربري لا صله له بأي أيديولوجيا، ولا بأي منظومة حقيقية أو زائفة.

ولكن الطرف الأضعف في هذا الصراع وهو رموز المعارضة السورية لديه طموح مدّعى بدولة ديموقراطية مدنية تعددية، لا يجد حاملوه ضيرًا في التعويل على تيارت ظلامية، وقد أثبتت الأحداث أن صبغة الظلامية لا تستثني من صُنف كذلك رسميًا، ومن لم يصنف.

ولا يزالون يرفعون العقيرة بمطالبات صدحوا بها في أول الثورة، ولم يعد ممكنًا في ظل استلاب القرار والتغيرات التي ذكرنا قسمًا منها في البداية وهي من الغموض بمكان الاستمرار في الإصرار عليها، وأصبح من الضروري التفريق بينها كحلم لا بد من السعي إلى تحقيقه، وبين ضرورة تغيير الطرق المفضية إليه كلما تغيرت الظروف.

إن الانكفاء الأمريكي الذي نظنّ أنه جذر كل الغموض يمكن ان يجد له في ضوء ما ذكر تفسيرًا، وهو ترك هذه القوى التي تعيش خارج التاريخ تحطم بعضها إلى حين الوصول إلى نقطة يمكن فيها لسيد العالم الجديد أن يفرض رؤيته ومصلحته انطلاقًا من قيمه، وهو استعلاء للأمريكي بقيمه لا يمكن له أيضًا أن يدوم، ولا بد للواقع أن يغالبه فيغلبه طال الزمن أم قصر.

رئيس التحرير