في 1/8/2017 نشر طارق عزيزة في «الحياة» مقالاً بعنوان «هل يمثل جورج صبرا نفسه فقط؟»، ولعل من حسنات ثقافتنا التراثية أنها ملّكتنا القدرة على التمييز بين اللزوم المنطقيّ وغيره من أنواع اللزوم، وصار لدينا بسبب تدبرنا في مرجع علوم اللغة العربية وآدابها الأول، الذي هو القرآن الكريم، قدرة على تذوق المجاز واستخدامه.
ومن حسناتها أيضاً أنها استطاعت أن تمدنا بمعرفة بالمُغاير عندما عكفنا على دراسة المنظومات الأخرى، وهي معرفة تورث وعياً بالمغايرة أكدنا ضرورة امتلاكه في افتتاحيات موقع حزب الشعب، لأنه هو الكفيل بتفتيق وعي صاحبه بالمختلف، وفك انغلاقه داخل منظومة واحدة.
ما قاله جورج صبرا يعبر عن رأيه، والاستدلال على تعبيره عن موقف الحزب الرسمي من خلال ذكر عناوين افتتاحيات في موقع الحزب لزوم غير منطقيّ، فلا يلزم من استخدام آيات قرآنية كعناوين في بعض الافتتاحيات أن موقف صبرا يعبر عن رأي الحزب الرسمي، فاللزوم هنا منفك، ومن المضحك الربط بين تأثر أسلوب رئيس التحرير بالأسلوب القرآني فيما يكتب، وبين استكشاف مدى تمثيل موقف صبرا، أو عدم تمثيله موقف حزب الشعب.
فضلاً عن افتقاد القدرة على فهم المجاز الذي يمكن أن نعذر أسرى المنظومات المغلقة في عجزهم عن القدرة على تذوقه، فإن الافتتاحيات التي ذكرت عناوينها لم يكلف من أوردها نفسه مؤونة قراءتها كما يبدو. فمثلاً: في الافتتاحية بعنوان «ثورة الكرامة لا ينصرها إلا المؤمنون» تحريض للتيار الديموقراطي العلماني على أخذ زمام المبادرة من الطرفين اللذين شوها الإسلام، وهما الإسلام السلفي الجهاديّ، والميليشيات الشيعية:
«للثورة في سورية منفذ وحيد لكي تؤتي أكلها، وهو يتمثل في نفي المطلقين اللذين يحمّلان الواقع النسبيّ بطبيعته ما لا يطيقه، وهو منفذ وحيد لأنه يعيد الأمور إلى طبيعتها، ويتعامل مع الواقع الذي هو توقيع ممكنات على حساب ممكنات وفق ما تقتضيه ماهيته، وهو ما لا يمكن حصوله بمزاحمة المستحيلين اللذين يريدان أن يلغياه لمصلحة استبداد يمثله مطلق الوحي المستعاد، ومطلق الفهم الحرفيّ للنصّ».
وفي الافتتاحية بعنوان: «من هم أهل السنة والجماعة» يهاجم كاتب الافتتاحية المهجوسين بجدالات القرون الوسطى، ويقول إنه إذا كان ثمة ممثل لأهل السنة والجماعة، فإنه سيكون الطفل أيلان الذي غرق في البحر، والطفل عمران الذي أخرج من بين الأنقاض، فاختيار من يمثل الغالبية في سورية لا يكون وفق معايير مأخوذة من جدالات أكل عليها الدهر وشرب، وإنما وفق معايير التضحية والألم السوريين.
أما الافتتاحية التي حملت عنوان: «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» فقد كانت تهاجم نظام الاستبداد الأسدي وحليفته السابقة «حماس»، وكان ذلك بمناسبة إصدار «حماس» وثيقة تعلن فيها تخليها عن الصبغة الدينية للصراع، وتتهم الافتتاحية «حماس» بالبراغماتية الذاهبة إلى أقصى مدى مدفوعة بشهوة السلطة.
وقد جاء في خاتمة الافتتاحية ما يقطع بموقف كاتبها السلبيّ من الإسلام السياسي: «تحكم المنظومات المستبدة المقنّعة بمنظومات شمولية إسلامية، أو قومية شعارات لا يلبث رافعوها عندما يحدق بهم الخطر إلى نبذها، فتتخلى «حماس» الإسلامية عما يسمى ثوابتها، ويتخلى النظام السوري عن شعاراته القومية من دون حياء، ولأن الكيانين مزيفان فإن ما أحكم حلقات تحالفهما لا يلبث أن يكشف عن عرى واهنة لا تقوى على المقاومة، فيلتفت كلّ منهما إلى نزوعه البدائي، نزوع الاستئثار بالسلطة، مهما كلف ذلك من ثمن، وأهدر من أرواح».
ولعل من مقاتل النقد انتقائيته. فإذا كانت الآيات القرآنية، التي يبدو أنها لا تزال تثير حساسية بعض المؤدلجين، يمكن أن تسبب لبساً وارتياباً في ديموقراطية الحزب وعلمانيته، وشكاً في توجه مدروس لأسلمته، فماذا عن الافتتاحية التي هاجمت الفصائل الإسلامية المسلحة، وداعميها وحملت عنوان «المد الإسلامي محمولاً على براميل الغاز».
وماذا عن الافتتاحية التي تعد الأب باولو رمزاً وطنياً إنسانياً ينتظره كلّ سوري ثائر، وتثمّن موقفه المتسامح تجاه بعض أصناف المجرمين من طائفة النظام، وتعده موقفاً وطنياً ناضجاً في تفنيد صريح لمن يتهم كاتب الافتتاحيات بالطائفية:
«فهو إذ يقف مع المطالبين بالحرية والكرامة إنما ينصر قيماً إنسانية كونية، وإذ يصوغ خطاباً إنسانياً شاملاً لا يستثني في تسامحه حتى اصنافاً من المجرمين، إنما يأخذ بروحية النصوص، ويتعالى على حرفيتها، وينفخ في الحدث السوري إشراقة معنى جديدة».
وماذا عن الافتتاحية التي حملت عنوان «أنت الذي سرقت ثورتنا فكفاك غدراً بنا»، وكان المخاطب فيها هو الإسلامي المتطرف بكل أصنافه وألقابه:
«إن إقصاء هذا الفاعل (والمقصود الإسلامي الجهادي) عن ثورة الكرامة أصبح ضرورة ملحة، إذا كنا لا نريد أن نستمرّ في طعن ثورتنا بخنجر مسموم شوّه نقاءها وشرعيتها، وقد أصبح من السذاجة بمكان بعد السنوات التي تصرّمت من عمر الثورة السورية أن نستمرّ في تبرير سرقة هذا الفاعل -المغتاظ بحكم بنية فكرية شائهة- للمشهد بحجة الواقعية».
إن في المساحة الممنوحة لرئيس التحرير للتعبير عن رؤيته بما لا يخرج عن التوجه العام الديموقراطي العلمانيّ، وإن اختلف مع مواقف سياسية معينة لبعض أعضاء الحزب وقيادييه، دليلاً على محاولات جادة لتمثل الديموقراطية، وتكريس ثقافتها.
وصبرا إذ يعبر عن رأيه، فهو مسموح له ذلك، ولا يعد إذا خالف رفاقه مرتداً، خصوصاً أن خطابه يحتمل الأخذ والرد، والموافقة والدحض، وهي فضاءات للحوار لم يعتد عليها ربما من اعتادوا على الحسم بدعوى القطع والجذرية، وهو عين الموقف الأيديولوجي والإقصائيّ والظالم الذي يدعون أنهم يناصبونه العداء.

* رئيس تحرير موقع حزب الشعب الديموقراطي السوري

المقال موضوع النقد على الرابط التالي:

https://goo.gl/vGt5Nj