لا تحتاج المعارضة السورية إلى كلّ هذا الصراخ لسماع تصريحات ماكرون الأخيرة، فالرجل لم يأت بخطاب مغاير للتوجهات العامة، ولم يرتكب إلا خطيئة الشفافية، وهو إذ صرّح بأن رحيل الأسد ليس أولوية، إنما عبر عن إدراك لواقع تحوك خيوطه عدة متغيرات:

ففي التفاهم الأمريكيّ الروسيّ الأخير يبدو واضحًا أن الروس مرتاحون أكثر -وهم بصدد تنفيذ رؤيتهم- من إدارة ترامب، فبوتين يمسك بإحكام بالخيوط في الداخل الروسيّ، وهو قادر على عقد صفقات واتفاقيات مع قوى إقليمية ودولية مؤثرة كإيران والصين، إضافة إلى أنه يستطيع اللعب على تناقضات العلاقة الأمريكية الأوربية. أما إدارة ترامب فهي غارقة إلى أذنيها في مشاكل داخلية تعوقها عن رسم تصور واضح لسياستها الخارجية، وهو ما يجعلها لا ترى في الأزمة السورية إلا ما يريه إياها الروسي المهيمن على الأرض، والذي يعرف بالضبط ماذا يريد، ولهذا فإن الرئيس الفرنسي لا يخطئ إذا فكّر بالاقتراب أكثر من الخط السياسي الروسيّ.

والمتغير الآخر أن ماكرون إذ يفكر بدالة مصلحة بلاده، فإن من حقه الطبيعي أن يرى في خطر الإرهاب أولوية تفوق أولوية رحيل الأسد.

وقد وقع اتفاقًا اقتصاديًا مع إيران يمثل متغيرًا آخر يجعله -بدافع التفكير في المصلحة- يقدم تنازلًا لحليف الأسد الأول.

كل هذه المتغيرات تندرج ضمن المتغير الأكبر الذي يتمثل في عجزه عن رؤية بديل عن المعارضة السورية الطافية على السطح يضمن ضبط الفوضى في المرحلة الانتقالية.

وجملة ماكرون السياسية؛ لأجل كل ذلك متوازنة خصوصًا، وأن التصريح إذا ضُمّ إلى تصريحات أخرى للرئيس الفرنسي تعبر عن قناعته بعدم صلاحية الأسد لحكم سوريا في المستقبل، فإن معناه لن يتجاوز أن رحيل الأسد ليس شرطا مسبقًا للتفاوض، وأن وجوده يمكن أن يكون مقبولًا في مرحلة انتقال سياسيّ فحسب.

الدهشة التي اعترت وجوه كثير من وجوه رموز المعارضة السورية بسبب تصريحات ماكرون تعبر إما عن نفاق وتزلف للمزاج السوري العام، أو عن جهل بمتغيرات الأحداث، وهو جهل يصدم صاحبه الكلام المعبر عن الواقع بسبب الغشاوة التي تعميه عن رؤيته.

ومع كلّ هذا فإن على ماكرون أن يقرأ التاريخ جيدًا، وألا يكتفي بقراءة متغيرات الحاضر؛ لكي يدرك طبيعة هذا النظام الذي يمكن أن نستشفّ أن ماكرون صار لا يرى ضيرًا في التفريق بينه وبين رأسه.

فليتذكر ماكرون أنه في عام 1981 اغتيل لويس ديلا مار السفير الفرنسي في لبنان على يد عملاء للمخابرات السورية في جريمة وقحة في وضح النهار، وأنه في عام 1983 نُسب الهجوم على قوات المظلات الفرنسية في بيروت إلى حركة الجهاد الإسلامية المتصلة بإيران وسوريا، وأن أصابع اتهام كثيرة تشير إلى ضلوع جماعات مرتبطة بالنظام السوري في أعمال إرهابية راح ضحيتها العشرات في باريس منتصف الثمانينيات.

ولكي يعزز ماكرون فهمه لطبيعة النظام، فعليه لا أن يتذكر تلك الأحداث فحسب، ولكن عليه أيضًا أن يقرأ ما كتبه ميشيل سورا عن الطبيعة المتوحشة للنظام السوري الذي بفقده شرعيته السياسية أعاد تفعيل أشكال الشرعية التي سبقت الهياكل السياسية، من طائفية وعرقية وقبلية، وأن حافظ الأسد اختزل النظرة السياسية في ربط مصير العلويين بشخصه على حد تعبير سورا.

وأن يتذكر أن مواطنه سورا لم يسلم من إجرام النظام فاختُطف في بيروت عام 1985 وقُتل، ولم تستلم السلطات الفرنسية جثته إلا عام 2005، وكل أصابع الاتهام تشير إلى نسخة حزب الله الأولى حركة الجهاد الإسلامية.

سيد ماكرون: إن قراءتك المتغيرات من دون تبصر بطبيعة النظام الذي لا يكتمل إلا بقراءة التاريخ وشهادة شهيد الكلمة الحرة سورا قراءة ناقصة يمكن أن تكون كلفتها كبيرة جدًا، وهي بسبب عوارها تجعلك لا ترى بديلًا شرعيًا عن الأسد، ولو أجهدت نفسك في البحث لوجدته، فليست رموز المعارضة السورية الحالية والتي لا تقنعك عينة صالحة لتمثيل كل السوريين، وليس فشل هذه المعارضة التي لا تقنعك مسؤوليتها لوحدها، فقد شاركت الدول الداعمة للثورة السورية، ومنها فرنسا مشاركة غير مباشرة في هذا الفشل.

رئيس التحرير