في إحدى الروايات العالمية يقوم بطل الرواية بارتكاب جريمة قتل من أجل جلب المال لفتاة مشردة، ويكتشف متأخرًا أن مشكلة فتاته قد حُلت بمجرد أن أباها وجد فرصة عمل، فأخذته الدهشة من بساطة الحل، وعجزه عن إدراكه.
يقول بعض المنظرين ذوي الجذور الماركسية إن هزيمة حزيران كانت حدثًا لا مناص من حدوثه؛ لأننا لا نملك مقومات نهوض حضارية تؤهلنا للانتصار في معاركنا الوجودية؛ ولهذا فلا بد من أن نعيد النظر في كل منظومتنا بما فيها، بل وعلى رأسها النصوص المقدسة.
بالطبع لا خلاف في ضرورة مراجعة المسلمات والثوابت، ولا شك أن هذه المراجعة ملحة، وأنها لا يمكن أن تكون ناجزة من دون فتح باب تأويل النصوص على كل الموسوعة المعرفية على حد تعبير امبرتو ايكو.
المشكلة أن دعاة المراجعة يبطنون غاية أخرى تنطلق من رغبة في استنساخ تجربة الإصلاح الغربية التي أفضت إلى نتائج بالغة الأهمية من فصل الدين عن الدولة، إلى تكريس دولة المواطنة، إلى إشراك الشعب في الشأن العام. وهم لا يزالون غافلين عن العلل الفاعلة التي أدت إلى هذه المعلولات في الغرب، والتي كانت ذات أثرين:
الأول: ما ذكرناه من ثمار يانعة جديرة بمحاولة استنباتها في أرضنا.
والثاني: تحويل المقولات الدينية عن ألوهية الإنسان إلى برنامج يحتل فيه الإنسان مكان الله، وتصبح فيه كلمة الله مقتصرة على شعوب معينة تضطلع بسبب احتكار هذه الكلمة بمهمة تحضير الشعوب المحرومة من بركتها، وهو ما برر الظاهرة الاستعمارية، وما جرّته من ويلات.
ولأن الدعوة إلى تبني النتيجتين غير ممكن، فقد كانت الفلسفة الرافضة للأثر الثاني حلًا وسطًا في ظنهم الذي ظلّ مشوبًا بالغفلة عن تجذرها في جذور دينية أُلبست لبوس المضمون الاجتماعي السياسي.
ولأجل هذا فقد كان مشروع التعريب للفلسفة الأخيرة موضع ترحيب مبالغ فيه من جانب المستلبين؛ لأنه يحقق المعادلة الصعبة المتمثلة في تحقيق التوازن بين استنساخ التجربة محذوفًا منها بعدها الاستعماريّ، ومضافًا إليها بعد قوميّ يمكن أن يجعلها أقلّ طوباوية.
ولذلك تراهم لا يزالون يجترّون مقولتي الوعي المطابق والفوات التاريخيّ، وهم بصدد دعوتهم إلى النهوض.
إن ما قلناه لا يقصد منه بخس مفكري التعريب أشياءهم، ولكننا نظن أنهم يُظلمون باستحضارهم من جانب خلَفهم الذي يعاني استلابًا تجاه منظومة حضارية مختلفة، وجهلًا مركبًا بمنظومته الحضارية، وهو جهل يدفعه إلى مناصبتها العداء، وتحميلها مسؤولية “الفوات”.
الأمر المهم الآخر أنهم لا يزالون يمارسون سياسة الوصاية على أبناء جلدتهم باستخدام مقولات كبرى لم تؤت مثيلاتها التي من جنسها أكلًا عبر عقود.
وفي هذا غفلة أخرى عن الهوة التي تفصلهم عن الواقع الذي أصبح فيه رجل أعمال واحد ذا قدرة على توجيه الأحداث أكثر من مئة مفكر، وأصبح فيه مصطلح ديني واحد ذا قدرة على تجييش الآلاف.
وفيه غفلة أكبر عن أن حلم بعضهم بتهشيم المقدس، وإلقائه في البحر دونه خرط القتاد.
والغرابة أن ما يفسرون به هزيمة حزيران هو ذات التفسير النخبوي الذي لا يجدون حرجًا في جعله -بكل ما يكتنزه من غفلة، واستلاب، ونقص- تفسيرًا صالحًا للمأساة السورية.
يبدو أن أصحابنا من دعاة النهضة هؤلاء تداعب أحلامهم الأعمال البطولية التي يظنون أنها يمكن أن تدخلهم التاريخ كما ظنّ بطل الرواية المسكين، بينما يذرون مجريات الواقع ملكًا لبراغماتيين يمتلكون إمكانية تغييره بأدوات أبسط، وأكثر إجرائية، وأثرًا.
رئيس التحرير