إن تدبر مآلات الثورة السورية  يُلزم -بتغذية راجعة- متدبّرها بالاقتناع أن النخبة السياسية التي تصدرت المشهد كانت على درجة كبيرة من الفقر في أدوات مقاربة المتغيرات، وأنها مزجت الأمنيات بالتحليل السياسيّ، هذا فضلًا عن تدنّي المستوى الأخلاقيّ لكثير من أفرادها.

ولعل في هذه المراجعة -التي لا تكاد تجد معارضًا سوريًا لا يدعي ضرورتها، و لا يعلن شروعه فيها-، ما يفصح عن علة ذات قدرة تفسيرية على العجز عن إقناع هذه المعارضة العالَم بمشروعية الثورة التي تمثلها، والحقوق التي تطالب بها.

وإن من ضمن هذه الصورة القاتمة للمعارضة السورية رسوخ الاستقطاب الأيديولوجي الذي يثقل كاهلها، ويجعلها شيعًا متفرقة، تثور ثائرة المنتمي إلى إحداها لمجرد سماع ادعاء بأفضلية أقران له من شيع أخرى.

وهي حال نظن أن النظام السوري مدركها، وواعٍ كيفية استثمارها لنخر جسدها، وتشتيت قواها.

ومن بين أدوات هذا الاستثمار -الذي نجح إلى حد كبير- تغييب أصوات قادرة على شلّ قدرته على اللعب على تناقضات المعارضة السورية، وتخريب سرديته الشيطانية عن دوافع الثورة، و حاملها الاجتماعيّ، و نصابها من الحقوق بمعناها المتعين لا المجرّد.

ولأجل هذا عمد إلى اختطاف أيقونة من أيقوناتها منذ البداية، ورفض سماع كلّ المناشدات المطالبة بإطلاق سراحه.

لا يمثل فايق المير الذي يعرفه شباب الثورة السورية بلقب “أبو علي” ثائرًا فردًا دفعته إلى ساحات الثورة ظروف قهر شخصية، ولكنه كان أنموذجًا قادرًا على تجسيد جوهر هذه الثورة، وجدل خيوطها التي تعبث بأطرافها أياد مشبوهة، أو مغرّر بها.

وإن تمثل فايق لشعارات الثورة ليس منفصلًا عن تاريخ نضاليّ عريق مزجه بمعاناة لم تتوقف فصولها منذ ثمانينيات القرن الماضي، مشحونة برغبة صادقة في تطوير الأدوات، ومراجعة الخطاب، واطّراح المستهلك عديم النفع.

ولا يمكن فصل حالة فايق المتقدمة عن سيرورة تطور حزبه الذي امتلك قصب السبق في المراجعة، والتطوير، والتجديد، و النضال في ساحة المعركة لا من خارجها.

وهو لذلك يمثل رمزًا للتفاعل الجدليّ بين التشوف والممارسة، وبين الرغبة والفعل.

ونحن إذ نؤكد ذلك لا نؤكده بدافع عصبية حزبية، ولكن من تبصّر بأنموذج جمع بين الانتماء الوطنيّ العابر للانتماء الطائفيّ، والإيمان الراسخ بالانتماء السياسيّ الذي اختاره وأخلص له، واشتغل على تطويره من داخله، وبمكابدة حقيقية مترفعة عن ترديد شعارات جوفاء.

أن ينبذ فايق انتماءه الأقلويّ، ويستبدل به هوية منبسطة ديناميكة فضاؤها الوطن، وأن يكون فاعلًا من ضمن فاعلين ذوي تاريخ مجيد في مقارعة الاستبداد في امتلاك شجاعة الانعتاق من أسر الأيديولوجيا، وأن يصوغ حالة ثورية تلتفّ حولها جموع الشباب الثائر من كلّ الأطياف إنجازات لا يطيق معها نظام الاستبداد صبرًا، ولا يأمن إفسادها لخطابه الطائفي المتلطي خلف الأيديولوجيا المتعفنة فلا يجد بدًا من إلقائه خلف قضبان زنازينه الموبوءة.

وعلى الرغم من الألم الذي يعتصر قلوبنا لغياب أبي علي في الذكرى الرابعة لاعتقاله فإن روحه التي تحوطنا، ونحن في أشد حالات اليأس، وما يقضّ به مضجع النظام وهو في أسره يفتحان نافذة في جدار اليأس، ويؤكدان أن لدى الثورة السورية ما تستلهمه من مثل، وما تستمده من قوة، لا يصمد أمامها نظام الاستبداد بكلّ ما يمتلكه من قوة مادية متوحشة، وما يتمترس خلفه من قوى بربرية مثله.

أنت الذي تسجنهم يا فايق، وأنت الذي تضيء لنا الطريق كلما أظلم، وتنفخ فينا إشراقة الأمل كلما استبد بنا اليأس.

رئيس التحرير