منذ عام تقريبًا قضى الصحفيّ السوريّ ناجي الجرف في وضح النهار، وفي مركز مدينة عنتاب على يد مجهولين قيل لاحقًا إن السلطات التركية قد ألقت القبض عليهم، ولكنهم ظلوا عفلًا بالنسبة إلينا.

لم يكن رحيل ناجي بالنسبة إلى من عرفوه وعايشوه حدًثا عاديًا، فهذا الشاب الثوريّ الخلوق البسيط، والمبدع في عمله كان أنموذجًا لكثير من الشباب السوريّ، وقدوة يحتذى بها في العمل الثوريّ، وقد فجع برحيله مغدورًا كلّ من عرفه.

وقبل فترة بسيطة أجهز مجرم على الناشطة عروبة بركات وابنتها في منزلهما في اسطنبول ذبحًا في جريمة أقضّت مضجع كلّ من عرف هذه الإنسانة الوطنية وابنتها الشابة الواعدة.

صارت الحادثتان مضطرب تأويلات وتخمينات يتصدرها اتهام نظام الأسد بملاحقة الناشطين السوريين المقيمين في تركيا، ويأتي بعد هذا التأويل من حيث درجة الشيوع اتهام تنظيم داعش باستهداف معارضين علمانيين مصنفين في دائرة من يحاربونه من فسطاط الكفر.

ولا يبعد عندنا أن يكون أيّ من التأويلين صحيحًا، ولكنّ ما يثوي خلف هذين الحدثين الجللين أكبر من تأويلات تحاول معرفة الفاعل، فأن يلاحق النظام معارضيه ليس مستغربًا، وأن يستهدف داعش خصومه الذين يشغبون عليه سلوك متوقع منه.

ولكن أن يُقتل ناجي في وضح النهار بكاتم للصوت، وأن تُذبح عروبة وابنتها في اسطنبول بالسكين يثيران تساؤلات عدة ويحرضان العقل على ما هو أبعد من البحث عن الفاعل.

ما الذي كان في حوزة ناجي من أسرار لكي يستهدف في ليلة رحيله إلى باريس؟

وما الذي يجعل من عروبة وابنتها هدفًا دون غيرهما من معارضين أكثر أهمية  بالنسبة إلى القاتل سواء أكان النظام أم داعش؟

سوف نفرض على أنفسنا قدرًا كبيرًا من الغفلة إذا صدقنا أن مجرد نشاط ناجي الإعلاميّ هو الدافع لاستهدافه بتلك الطريقة، وفي ذاك التوقيت المدروس.

وقدرًا أكبر من الغفلة إذا أقنعنا أنفسنا أن علمانية عروبة وابنتها، حرّضت التنظيم على قتلهما، أو أن معارضتهما للنظام كان لها القدرة على دفعه لقتلهما.

لا شك أن المضيف التركيّ ذو فضل على ملايين السوريين، وهو فضل لا ينكره إلا كلّ جاحد، ولا شك في تعاطفه مع السوريين في مأساتهم، ولكن أن نذبح ونحن في كنف مضيفنا، ثم يسدل ستار من الغموض على حقائق الجرائم أمران لا نستطيع أن نقصي ما تثيرانه من استفهامات على عقولنا.

ولأننا عاجزون عن الإجابة عن الأسئلة، فإن ما يمكن ان نستخلصه هو أن ناجي أنموذج إشكاليّ بالنسبة إلى أصحاب المنظومات الإقصائية، فهو قادم من مدينة السلمية ذات المذهب المعروف، ولكنه لم يكن معنيًا لا بانتمائه المناطقيّ ولا الطائفيّ، وإنما كان مثالًا للانتماء إلى الوطنية السورية، وهو انتماء يقلق من حرّضوا الفتنة وأضرموا نارها.

فلا يجوز أن ينجو بنفسه، ولا بد أن تًجهض دلالة اسمه التي أراد لها أن تكون دلالة رامزة إلى نجاة السوريين كلهم من المقتلة.

وعروبة بباعها الطويل في مقارعة نظام الاستبداد وبعلمانيتها التي لم تتنافر مع حجابها الإسلامي، أنموذج لعلمانية منفتحة لا تروق للإقصائيين: إسلاميين أو علمانيين.

ولا بد أن تُذبح عروبة التي كانت دلالة اسمها وزيها وزي ابنتها رامزين إلى انتماء مركّب متناغم بين العروبة والإسلام، ومنسجمين مع علمانية لا تأخذ منهما موقع الخصم.

ولكن السؤال المشتق من استفراغ الجهد في درك الدلالات:

أليس ثمة مغزى من ذبح العروبة في تركيا الإسلامية المذهب، العثمانية المشرب؟

وأليس ثمة مغزى من ذبح سليل المدينة التي أبدعت إحدى أهم الفلسفات والحركات في التراث الإسلاميّ والتي توصف من زاوية نظر معينة بالمروق عن النهج السويّ في تركيا هذه؟

لا نبغي التشكيك بمضيفنا، ولكننا نملك الحق في أن نسأله، وواجبه أن يسعفنا بالإجابة.

 

 

رئيس التحرير