الذين وصموا الفتاة “المنبجية” في الصورة التي تم تداولها على وسائل التواصل بالعهر؛ لأنها تضع سيجارة في فمها، لم يكونوا يصدرون عن وجدان ديني، وإنما عن عبادة لإله آخر غير الإله الواحد الذي يدعون أنهم يدينون له بالعبادة.

ولعل الأنوثة البادية والمحتشمة التي تبرزها الصورة، أمر لا يستطيع عبدة الأصنام هؤلاء أن يطيقوا رؤيته؛ لأن عبودية الواحد الحق تفتح فضاء الحرية، بينما تقيد عبودية بدلائه من يدينون بها بقيود لا يستطيعون الانفكاك منها، وتجعلهم ينفرون من أي مظهر من مظاهرها، وخصوصًا إذا كان مظهرًا معتدلًا في التعبير عن الحرية، لا يخرج عن حدود الوقار والحشمة.

فهم إما شوفينيون حاقدون على الكرد؛ مستاؤون من تحرير منبج على يد قوات أغلبيتها كردية، فيستخدمون الله غطاء على معبودهم الأصلي المتخيل الذي هو الأمة، وهؤلاء لا يستأهلون حفرًا عميقًا في بنية تفكيرهم؛ لأنهم يصدرون عن عامل نفسي، وصور نمطية، وليس عن منظومة فكرية تستحق التأمل والنظر.

وإما داعشيون مدحورون، يستخدمونه غطاء لتحقيق مشروع سياسي، هو معبودهم الحقيقي.

وإما سلفيون-على أنواعهم- مستغرقون في نصوص قديمة، صارت معبودهم بدل الإله الواحد.

إذا صحت الفرضية في علم اجتماع الدين، والقائلة إن الحضارات التي عدّت الإله محايثًا للطبيعة، قد نجحت في سبر أغوار الطبيعة، وتحقيق قفزات كبيرة ونوعية في علومها، وفي تكريس قيم الحرية وحقوق الإنسان، وإن الحضارات التي اتخذت إلهًا مفارقًا، لم تستطع أن تحقق ازدهارًا علميًا وحضاريًا، إلا في حقب زمنية محدودة، فإن هذا الاستقراء يصبح عاملًا مساعدًا في فهم تخلف أحكامنا على الظواهر، بغض النظر عن الحكم العقلي على مدى التماسك المنطقي لكل من المعتقدين.

إن عقيدة التوحيد التي يدين بها المسلمون، وبعيدًا عن بنيتها المنطقية المتماسكة، إذا كانت سببًا من أسباب قصورنا في مواكبة التقدم العلمي والحضاري، فإن هذا لا يعزى إلى ماهيتها، بقدر ما يعزى إلى فصلها عن التفاعل الجدلي مع السياق التاريخي، وتفتيتها إلى رؤى متغايرة، لا تقبل التحاور والاتفاق.

ويمكن لنا أن نجعلها سببًا من أسباب النهوض والتوحد، إذا استطعنا جدلها في علاقة جدلية مع واقعنا، بدل أن تكون سببًا من أسباب نكوصنا وتفتتنا.

فنحن نزعم أن المشكلة ليست في المعتقد من حيث هو، وإنما في كيفية تصوره واستخدامه.

فبعيداً عن التصورات الشعبية التي تنوس بين الاقتراب من التصور الأصلي، وبين الوصول في حدود قصوى إلى الوثنية، تعاني الثقافة العالمة في محاولات إسقاط الفكرة من تشظ ّ كبير في الرؤى، ليست رؤية الإسلام المتطرف إلا واحدة منها، وهي رؤية تعمل -بغير علم منها- على إهانة فكرة الإله الواحد عن طريق ربط تجسّدها بإرادات أشخاص ذوي تصورات بالغة الضيق والمحدودية، وافتراض هؤلاء أن رؤيتهم هي الرؤية الوحيدة الصحيحة.

أما التصورات الأخرى، فتتنوع بين ربط تجسدها بمشروع سياسيّ سلفيّ، هو الخلافة إذا أسرف الراغبون في ذلك في الحلم، والنظام السياسي المدني ذو المرجعية الإسلامية إذا اعتدلوا فيما يرغبون.

أو في قصرها على علاقة روحية بين الفرد وخالقه، كما يفعل المتصوفة، تُطهّر فيها الروح من أدرانها، وترتقي في مدارج العشق الإلهي.

أو في مشروع دعوي، يجهد في تحويل المجتمع إلى مجتمع ورع تقيّ، يلتزم أفراده بتعاليم الدين بوحي من الضمير.

ليس الاعتقاد بإله مفارق -كما تقول الفرضية المذكورة في البداية-، هي المعضلة، وإنما التمسك بها مع الإصرار على عدم الاتفاق على سبيل لتجسيدها، فيصبح الاختلاف في عقيدة التوحيد نفسها، وليس فيما يلزم عنها، ويصبح التذرر في تصور الإله الواحد، وليس فيما يجب أو لا يجب الالتزام به.

ليس الاعتراض على الصورة، إلا اتباعًا لتعاليم أوثان، ونفورًا مألوفًا من جانب العبيد من الحرية، وليس فرح الفتاة بالخلاص من استبداد داعش، مع احتفاظها بارتداء زيّ لا يرضى عنه الديمقراطيون المصطنعون الجدد، إلا تعبيرًا بالغ الروعة عن حسّ عفويّ بما تتطلبه العبودية الحقة التي تثمر حرية حقة.

رئيس التحرير