رئيس التحرير

كانت ليلة من ليالي الحصار الجزئي الذي فرضه نظام الأسد على الحي الذي أقيم فيه وعائلتي الصغيرة، وقد أخذ الإرهاق من الناس كل مأخذ، وعلى الرغم من أن الثورة كانت تقريبًا في بداية عامها الثاني، وكان الإحساس بدنو قطافها إحساسًا عامًا، فإن هذا لم يمنع الصراخ الذي كنت أسمعه من بعض البيوت المجاورة والذي يرفع به صاحبه عقيرته بعبارات الكفر الصريح.
تساءلت ليلتها: هل يفسّر الضغط الهائل الذي يرزح الناس تحت وطأته التطاول على المقدس في مجتمع تقليدي محافظ بهذه الصورة العلنية غير المواربة؟
أم إن أنفجار منظومة القيم التي يعد المقدس مصدرها الأساسي لا يمكن أن يحدث في مجتمع كهذا إلا لأسباب أقوى وأكثر تأثيرًا؟
كان الناس بين مطرقة النظام وسندان الثوار الذين يرفعون شعارات دينية، وكان المفترض أن يصبّ المحاصرون جام غضبهم على نظام الاستبداد الذي ثاروا عليه، فلماذا تسمع من بعض من شاركوا في الثورة السلمية نقمة بالغة حدها الأقصى على قدس أقداس الطرف المقابل للنظام؟
تذكرت حينها كلامًا جاء في الأثر أن كلّ ابن آدم يأتي يوم القيامة حاملًا إلهه على كتفه؛ لأن كل فرد له تصوره للإله مشتق من بيئته و وشخصيته وثقافته وبنيته النفسية، وهو يستحيل أن يتطابق مع تصور أي فرد آخر.
ولأجل هذا قلت آنذاك بيني وبين نفسي: لعل الإله الذي يقدمه حملة الفكر المتطرف بسلوكهم وقناعاتهم التي يبثونها قد توحدت صورته لدى قسم من الناس، وهو لخلوّه من قسمات الرحمة والحب -ما خلا تقديمه للحور العين في مقابل الشهادة- قد أصبح شريكًا في عبء إضافي فوق حدود طاقة البعض إلى درجة أنهم لم يعودوا يعيرون اهتمامًا لقدسيته.
وقد تذكرت الحادثة وتفسيري لها -الذي قد لا يكون كافيًا- أكثر من مرة بعد موت مرسي وما تلاه من تحليلات لعلمانيين سوريين وغير سوريين ولردود من يمثلون ما يسمى بالإسلام المعتدل وبعد هزيمة حزب أردوغان في انتخابات بلدية اسطنبول وما تلاها كذلك من تحليلات وآراء.
ولعل الربط لا يكون واضحًا ما لم نتذكر أن هذه النخبة التي تجادلت بعد الحدثين يفترض أن تتحمل قدرًا من مسؤولية انفجار منظومة القيم التي لم تعد صالحة للصرف بتصوراتها المحددة بمفاهيم قروسطية في عالم الاقتصاد المرن والأمكنة المتغيرة النسبية التي ألغت المكان الإقليدي المطلق، وهيمنة ثقافة الصورة والتبدل السريع.
ولعل هذه العجالة لا تفسح مجالًا للتمثيل بأكثر من مثالين، فقد وصف البعض مرسي بالانقلابيّ، وهو ما يمكن أن يكون موضع اخذ ورد لو لم يكن مفصولًا عند صاحب هذا الرأي عن تجريم الانقلاب عليه وإلقائه في المعتقل إلى أن يلقى حتفه على يد طغمة عسكرية فاسدة.
وقد جاءت الردود على هذا الرأي الذي لا نوافق عليه من إسلاميين” معتدلين” لتعبر عن افتقار خطاب الكثيرين منهم لأخلاقيات الخطاب في تجلّ واضح للتخندق الإيديولوجي الذي يصلح عاملًا تفسيريًا لصدأ المنظومة التي يعبر بعض حملتها -وقد حملوا فوق ما يحتملون- عن يأسهم بكفر بأصل هذه المنظومة.
وفي مثال آخر رشح العنف الرمزي بشماتة لا صلة لها بالمنهج العلمي في وصف أحدهم أردوغان بالفاجر المتسلط، وهو وصف يكشف عن نزوع نفسي غير سليم أكثر مما يعبر عن توصيف موضوعي.
فقد نوافق على وجود طموح امبراطوري لدى رأس النظام التركي، ولكن طلب إعادة الانتخابات بإجراء قانوني والقبول بنتيجتها لا يمكن أن يوصفا بلغة عنيفة كهذه، وهنا أيضًا جاءت الردود مفتقرة إلى الحد الأدنى من أدب الحوار، وعبرت عن استبطان الطرفين لكراهية متبادلة واستعلاء متبادل يمتح من أيديولوجيا إقصائية مهما حاول أن يخصف على سوءته من قشرة علمية.
ولعل متابعة الردود والردود عليها وما تفصح عنه من خطاب عنفي تذكر بما عبر عنه “هابرماس” من ابتداء حلزون العنف بحلزون تواصل مشوه بتوسط خطاب مشوه.
ولما ذكرناه في البداية عن انفجار للمنظومة يعبر عن نفسه بتطاول على مصدرها الأساسي هو وجه العملة الذي يناظره التدين الفردي الذي أكدت دراسة حديثة أنه يشكل نسبة كبيرة لدى شباب ما بعد الربيع العربيّ، وقد فسر أنه لواذ بالمطلق هربًا من حالة عدم اليقين.
وليست هذه الفردانية التعبيرية -بحسب تعبير تايلور- أقل قدرة تفسيرية من الظاهرة السابقة عن عجز المنظومة القيمية بصورتها الكلاسيكية عن الصرف في عالم المكان النسبي والتبدل السريع.
ولعل فرح بعض الإسلاميين بما يسمى بـ “ما بعد الإسلام السياسي” وحض خصومهم الإيديولوجيين على الدفع باتجاهه كنقيض للإسلام السياسي يمكن أن ينتج عنه مركب جدلي أرقى يجدر ان يستبدل به الدعوة إلى “ما بعد علمانية” -كان هابرماس قد دعا إليها- لا تستعلي على أصحاب المنظومة الدينية ولا تتهم الفكر الديني باللاعقلاينة، وإنما تقوم على صياغة خطاب يمثل جزءًا من فعل تواصلي يستخلص من الدين نواه العقلانية بعمل مشترك، ويفتح الفضاء العمومي لكل الأطراف في إطار من التسامح الذي تؤطره علمانية يمكن للمتدين أن يعبر عن نفسه وفكره ومشروعه من خلالها عبر ديمقراطية حقيقية لا تختزل في صندوق اقتراع بائس يتسلق عليه الطامحون ثم يلقون به في البحر.