لماذا لم يسقط التمثال؟

يمكن لك أن ترى الحالة الاستاتيكية التي تعيشها تلك المدينة مكثفة تكثيفها الأقصى في مكانين:

المجمع الحكومي الذي يحوي بناء البلدية والمحكمة الذي لا ترى في أبنيته  أبسط معايير الجمال الهندسي، ولا تلحظ في مداخله ومخارجه أبسط أهتمام بالنظافة.

والأبنية الصفر التي يقطن معظم شققها الخالية من المنحينات والمشغولة بالزوايا الحادة عوائل يجهد ربها وربتها في تحصيل أبسط مقومات العيش تاركين أطفالهم للعب في مداخل البيوت التي لا يمسّها الماء إلا كل بضعة اشهر، ولا يخيم عليها دفء العاطفة التي ألقى بها خارج البيت عبء المعيشة الثقيل، وهندسة البيت التي تبعث على البرد في حر الهاجرة.

ربما كان الإبقاء على حال الجمود وتكثيفها في اختيار اللون الكئيب وفي إهمال الأبنية التي ترمز للقضاء ولحركة الحياة سياسة مقصودة ترادف سياسة تحويل طلاب المدارس إلى ببغاوات ترتدي زيًا واحدًا وتردد شعارات واحدة.

لم يكن الإسراف في تسكين الحياة بكل أبعادها ليذهب بعيدًا لولا ما قدمته أحداث الثمانينيات من ذريعة للأسد الأب لكي يحول نفسه إلى إله.

الأحداث التي أطلقت العنان لكل المخزو ن الغرائزي البدائي لكي ينفجر بصراع بين ممثلين لهذا المخزون: نظام طائفي مجرم، وحملة هوية ساكنة مصنوعة صنعًا تبرر على أساسها أفعال خارج أي منظومة قيمية.

وكان طبيعيًا أن ينتصر في هذا الصراع البدائي ذو القوة المادية الأكبر.

والمسطور في البداية كان نتيجة لذهاب الجلاد بعيدًا في غيّه بعد أن كسر إرادة الناس بعنف غير مسبوق.

فعبر تشويه المكان تفقد الإحساس بدفئه، وعبر تجميد الزمن يصبح المكان الذي هو -كما وصفه باشلار- تكثيف للزمن مكانًا غير صالح لأحلام يقظة ولا لتحليق في سماء الخيال.

وعبر تشويه المكان لا تستطيع أن تنسج علاقة صحية مع المقدس، وعبر تجميد الزمن لا تستطيع أن تثبّت فيه بإرادتك أمكنة تساهم في تشكيل سردية خاصة.

ولأنك عاجز عن تشكيل سردية خاصة تستخدم سرديات مفروضة عليك فرضًا، تدفعك في الاتجاه الذي تريد.

من رحم هذا السكون انفجر حراك جديد عبر عن شعارات نبيلة محقة للحرية، ولكنه كشف عن عمق طائفي في البنية العميقة كرّسه الاستقطاب الطويل والإهمال المديد.

وما كان هذا ليكون مأخذًا على الحراك لولا تكريس النخب هذه الحال، إما بعبارات فضفاضة عن الخطاب الوطني العابر للطوائف الذي فشلت هذه النخب في تجذيره عبر عقود سابقة.

أو باستيراد يبعث على الشفقة لمقولات من قبيل “الفوات التاريخي”  من أدبيات لم تعد أدوات أصحابها المعرفية تصلح لمواكبة ما يجري.

وفي صبّ بعض القادمين من اليسار المتكلس جام غضبهم على المقدس  في عداء لا يوضح أصحابه -بانتقائهم ما ينتقدون انتقاء مغرضًا – أي منهج ينتهجون ولا أي غاية يتوخون.

ربما كانت تلك المدينة أنموذجًا صالحًا للإسقاط على أماكن سورية عديدة كانت حواضن رئيسة للحراك الثوري بدرجات متفاوتة، ولكن الأكيد أن ما كان منتظرًا من الحراك لم يكن واقعيًا لأنه لم يشتغل على تحليل عميق للعلاقة بين الفرد والمكان وبينه وبين الزمان وما ينتج عنهما من علاقات متشعبة عمودية وأفقية.

إن عودة تماثيل حافظ الأسد إلى الساحات ليست أمرًا مستغربًا، فلم يكن ثمة بديل يحوّل العلاقة مع المكان إلى علاقة تجعله مكانًا يتعالى قاطنه إلى ذرى الفكر عندما يصّعد فيه، ويسيح في عوالم الخيال والغيب بشكل فني راق عندما يهبط إلى أقبيته.

هو مكان ملأ السوح الفارغة فيه خطابات ساكنة سكون الزمن الذي تكثف فيه وغلب فيه خطاب وكيل النص المقدس لأنه الأقوى ماديًا والأكثر انسجامًا مع المحيط.

وكان طبيعيًا أن بعود المتأله الذي تحكّم بالأمكنة في حياته فشوهها، وظل يحكمها وهو في قبره، وأن يعلن أن من أحدث هذا التشويه هو الأجدر  من غيره بتمثيل قبحه.

رئيس التحرير