يمكن لمتصل هندسي واقع على طرفه الأقصى ديمقراطي سوري، وعلى طرفه الآخر موال لنظام الاستبداد أن يكون نمذجة مبسّطة لشاغلي القطبين اللذين ينظر الأول إلى نفسه على أنه نصير الحق والخير والجمال، ويبرر الثاني موقعه بالدفاع عن استقلالية القرار الوطني ومحاربة الإرهاب وممانعة القوى الامبريالية.
ولكن الأنموذجات الرياضية لا تفلح إلا في اختزال الواقع بالغ التعقيد والتشابك وتسهيل اختيار الموقع بفعل إرادوي قد لا يكون مطابقًا لواقع الحال، وغالبًا ما يكون كذلك.
فيمكن لديمقراطي مصقع أن يزاحم على وضع موطئ قدم في القطب الأول، ولكنك لا تسمع منه إلا خطابًا عن الاستبداد غير متعيّن ولا يمثل النظام السوري بؤرته، بينما تراه يصبّ جام غضبه على معارضة النظام بكل أطيافها بما فيها الطيف الذي ينتمي إليه.
ولا تستطيع وأنت ترى العمومية في الحديث عن الاستبداد والتخصيص البالغ أقصاه في نقد معارضة النظام المستبد أن تمنع الشكوك في ولاء مبطن للنظام لدى هذا الأنموذج وجسور خفية على المتصل تربطه بأفراد القطب المقابل.
كما تكاد تعدم لدى هذا الطرف من استطاع أن يدرك استحالة أن يتماكن المبدأ المركزي مع الديمقراطية في حيز واحد. فعدا عن هيمنة لا تجارى للإسلاميين على الكيانات الممثلة لهذا الطرف الديمقراطي، والذين لا يستطيعون الانفكاك عن الدوران في فلك مبدأ مركزي هو الله أو النص.
فضلًا عن هذا تجد خصوم الإسلاميين في هذا الطرف لا يقلون خضوعًا لمبادئهم المركزية على اختلاف أنواعها. والتي قد تكون أقل شأنًا وأضيق نطاقًا بكثير من مبدأ الإسلاميين لأنها لم تستطع في كثير من المواقف أن تخفي تجسدها في طائفة أو عشيرة أو حزب.
وليس بدعًا القول إن هذا المبدأ المركزي عقبة كأداء في طريق الديمقراطية؛ لأن أحد أكثر تعريفاتها تعبيرًا عن فحواها هو أنها مكان للغياب.
غياب القائد بعد حضوره، وغياب الحزب الحاكم بعد حضوره، وغياب الأكثرية بتحوّلها إلى أقلية، بعدّها أكثريةً تدعم برنامجًا، لا أكثريةً ثابتةً دينيةً، أو قوميةً، أو غير ذلك.
ولأن الغياب جوهرها، فإن المبدأ المركزي، بمركزيته هذه، يحيل المكان الذي لا يتسع إلا للغياب إلى مكان مشغول بمبدأ صلب عصيّ على التغييب.
إن لهذا التعريف للديمقراطية سنده المنطقي؛ لأن الجدل الخلاق الذي تتطلبه الديمقراطية؛ لكي تكون كما هي، سوف يصطدم بسقف يحدد ارتفاعه المبدأ المركزي الذي لا يقبل متبنوه فكّ مركزيته.
وبالعودة إلى المتصل الهندسي نجد شاغلي القطب الثاني لا يخفون تشبثهم بمبدأ مركزيّ، ولكنه بالغ التعين قادر على طرد أي مبدأ آخر يصبو إلى مزاحمته موقعه، متبلور في شخص المستبد أو شخصية نظامه الاعتبارية اللذين استفرغ في تشكيلهما جهد استمر عقودًا طويلة، واستغل لأجل تجذرهما ظروف وسياقات وتحالفات وقوى.
ومن هنا، فإن ما يشغل المسافة بين القطبين تجليات لكليهما تتفاوت في ما صدقاتها وتكاد تتفق في مفهوماتها.
ولكن ما يجعل قطب المطالبين بالديمقراطية أقل قدرة على المواجهة أنه يصدّر أهل الفكر الدينيّ، فيبدو التناقض بين المطالبة وبين الواقع صارخًا، ويصدّر بدرجة أقل مثقفين نخبويين لا يقلون انغلاقًا داخل بناهم الأيديولوجية المصمتة التي يحاول كل مبدأ مركزي فيها أن ينافس مبدأ الإسلاميين فيرتد في كل مرة ملومًا مدحورا.
وما يجعل قطب الموالين أكثر قوة أنه أنزل إلهه إلى الأرض فلا يرد عليه -والحال هذه- الاعتراض على تلوثه؛ لأن من طبيعة المادة الأرضية أن تكون كذلك، ومن طبيعتها أن تفرز ما تفرزه أي مادة من نتن.
في القطب الأول تنازع الآلهة ففسدت القضية، وفي القطب الثاني توحد الإله المصنوع فحول باطله إلى حق.
ولتعالي الصخب بين القطبين وعلى طول المتصل خفتت أنات المعذبين وتوارت تحت التراب أحلام الحالمين.
رئيس التحرير