رشّح أحد القوميين عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين لمنصب وزاري فذهب من مدينته إلى دمشق لإجراء مقابلة مع مسؤول كبير في النظام، ولكنه قفل عائداً بسرعة في اليوم التالي وعندما سئل عن سبب عودته السريعة روى الحادثة التالية:

قال إنه أرسلت له سيارة أخذته إلى المكان المقرر للّقاء، وكان في قاعة الانتظار عدة مرشحين للوزارات، ومن بين الجالسين في القاعة شخص يرتدي زي ضابط ويبدو أنه كان مخموراً ونصف نائم، وقد كشف جزءاً من صدره وكان كلما نودي على اسم من أسماء المرشحين للدخول إلى غرفة الشخص الذي يلتقي بالمرشح يعدّل جلسته ويفتح عينيه النصف مغمضتين ويقول باللهجة العلوية ” شي بيهوي ” ثم يعود إلى وضعه السابق.

أسلوب الإذلال المقصود الذي كان يتّبع مع المرشحين للوزارات أنفت منه نفس صاحبي هذا وغادر القاعة قبل أن يذاع اسمه وتناله الإهانة التي طالت كل من غضّ النظر عنها مضحيّاً بكرامته في سبيل المنصب.

بكعب وحذاء ضباط الطائفة العلوية حكمت سوريا التي حاولت في مستهلّ الخمسينيات أن تؤسس صيغة أولية للبرلمانية، ولما كانت هذه الحقيقة تحتاج إلى غطاء فقد طفق البعثيون يخصفون عليها من شعارات القومية ما عشيت به أبصار الكثيرين ممن لم يكتووا بنار طغيانهم وفسادهم.

ثورة السوريين التي كشفت عورة النظام الطائفي ولم تعد تجدي نفعاً لسترها شعارات القومية العربية وخصوصاً أن بشار الأسد لم يملك أوراق اعتماد قومية، ولم يمتلك قصص نجاح حقيقية في السياسة الخارجية دفعته إلى التخلي عن الخطاب القومي وإلقاء نفسه في أحضان نظام الملالي، النموذج الطائفي الأكبر وتسليم البلاد بعد ذلك إلى روسيا، النموذج السلطوي الأكبر.

بينما حاول منظرو البعث في العراق أن يلعبوا بأهداف البعث ويغيروا ترتيبها عندما أعيتهم السبل لتحقيقها بترتيبها الأصلي فعمد سعدون حمادي رئيس البرلمان العراقي إلى اقتراح جعل الشعار المعبر عن أهداف البعث” حرية، وحدة، اشتراكية” بدلاً من ” وحدة، حرية، اشتراكية”

واقترح لتجسيد الترتيب الجديد شنّ حرب على إسرائيل من أجل الشروع بالهدف الأول ” الحرية” وهو ما سيحقق الثاني تلقائياً لأن الشعوب العربية ستزحف للتوحّد مع البلد العربي الذي يحارب إسرائيل، وسيكون تحقيق الاشتراكية مسألة حتمية بعد تحقيق الهدفين الأوليين.

وهو ما أوهم صدام حسين بأن ضرب إسرائيل ببضعة صواريخ سيجعل الشعوب العربية تسقط أنظمتها وتنخرط في حرب التحرير التي يخوضها.

ليس حلّ القيادة القومية في سوريا إلا السطر الأخير في خطاب النظام السوري الجديد الذي يفصح عن حقيقته، وهي نهاية طبيعية لمؤسسة وهمية صنعت لتضفي على نظام السلطوية الشعبوية الطائفي شرعية زائفة.

الجذر النظري في منطلقات البعث الذي كان قابلاً للاستثمار من قبل من استولوا على السلطة بالقوة في سوريا والعراق بسبب ما انطوى عليه من طوباوية ودوغمائية أعيد ترتيبه في العراق، فصار العراق ساحة يرتع فيها نظام الملالي كما يشاء وأصبح نسياً منسياً في سوريا فحوّل سوريا إلى دولة محتلة باحتلال مزدوج.

الأمة العربية، هذا الكائن المتخيّل ما لم يكن حامله فرداً حراً في دول ديمقراطية تشظّى على يد بعث العراق وظلّ مادة للعبث على يد نظام البعث السوري.

هل سيعيد الممانعون الذين أيدوا نظام العصابة الحاكمة في سورية في حربه ضد شعبه حساباتهم وهم يشهدون بيعه سوريا لحلفائه ونزعه عن جسمه الثقيل رداء القومية العربية؟

رئيس التحرير