رئيس التحرير

شاب فراتي يقضي جل وقته في المركز الثقافي يبحث عن حقائق تاريخية تخص تاريخ سورية السياسي في بدايات القرن الماضي، ويجهد نفسه في محاولة العثور على أجوبة عن أسئلة لا تخدم هدف البحث كثيرًا لافتقاره إلى عدة منهجية تسدد خطاه.
هو أنموذج لشريحة شباب أدركوا بدون أن يشاركوا ما يسمى -لغرض تجهيليّ- أحداث الثمانينيات ووجدوا أنفسهم في قفص حديدي أحكم الأسد الأب صنعه يصادر فيه العقل وتفترس فيه أيامهم أنياب الفاقة وطوابير الانتظار الطويلة للباحثين عن أي عمل يسد الرمق.
انفجار الحراك الشعبي عام 2011 حرّك لديه أملًا بإمكانية الخروج من القفص، وبجعل فسحة النور الضيقة التي كانت تتيحها كتب المركز الثقافي المنتقاة بحسّ استخباراتي نافذة نور مشرعة على الحرية والكرامة والعيش الكريم.
وربما وجد فيها فرصة لامتلاك شجاعة التعاطي مع الواقع الذي كان يحثّ الخطى هربًا منه لفرط قسوته.
لم يعد ما شارك فيه سوى بضعة هتافات عن الحرية، ولأن قطاف الثورة الداني كان متخيلًا بينما يعشعش الرعب من العصابة المجرمة واقعًا في العقل والوجدان، فقد اختفى خوفًا من ملاحقة الجلاوزة، وعندما عثروا عليه هرب منهم لكي يسقط من بناء شاهق وهو يحاول القفز منه إلى آخر.
تهشم جسده النحيل وقضى باكرًا مخلفًا أطفالًا كانت آخر مناشدة له لأصدقائه تقول إنه يطعمهم -لضيق ذات يده- أوراق تين.
وبعد ثمان سنوات قفز من المنور طفل سوري لم يدرك من كل ما جرى سوى أنه مضطر لمسح الأحذية للمساهمة في إعالة عائلته في بلد النزوح.
لا شك أن للمهنة أثرًا في قدرة الفرد على المواجهة، وقد قضت إحدى شخصيات قصة قصيرة لعبد الحليم عبدالله أكثر من نصف العمر لتحقيق طموح واحد هو الانتقال من ماسح أحذية إلى حلاق، وعندها فقط تمكنت الشخصية من السير في الشارع بقامة منتصبة ورأس مرفوع.
ثماني سنوات اندفع في بدايتها إلى المجهول باحث مرعوب عن الحرية هربًا من أزلام العصابة المجرمة فقفز من المنور ليسقط ميتًا، وفي آخرها اندفع إلى المجهول طفل وجد نفسه مضطرًا للتعامل مع الأقدام من أجل قروش، ولكن هربًا من موظفي بلد اللجوء شديدي الحرص على تطبيق القانون على أمثال هذا الطفل في دولة ليس فيها من مقومات الدولة إلا الاسم.
بين قفزتين من عل تتجسد المأساة، ففي القفزة الأولى تجسدت ملاحقة ناشطي السلمية واستثمار كل الرعب الكامن في أنفسهم مما شاهدوه وسمعوه لدفعهم إلى مصير يحتمل الراحة مفضلينه على مصير لا يحتمل إلا أشد صنوف العذاب.
وفي القفزة الثانية تجسدت معاناة جيل جديد لم يدر ماذا جرى ولا لأي سبب، ولكن الفرد فيه مهيض الجناح منزوع القدرة على المواجهة فيندفع إلى الأمام خوفًا على عدة يحصل منها رزق عائلته فيسقط ميتًا.
بين قفزتين من شاهق يمكن تلخيص المشهد: نظام مجرم يصر على صيانة مملكة الرعب ولا يذر أمام من يصبو إلى فتح نوافذها إلا نافذة إلى الموت.
وحرب ظالمة تفرز جيلًا لم يتخذ رأيه فيها، فيهجر إلى بلاد ينخر فيها العفن الطائفي إلى أعمق أعماقها فيضطر إلى التقاط قوته من مهن تسلبه ثقته وتدفعه إلى اختيار العدم.
بين قفزتين يمكن استشراف ما سيجري، ففي الأولى وقّع الباحث السلمي عن الحرية بدمه تفضيله الموت على العودة إلى القفص.
وفي الثانية جسد الطفل ماسح الأحذية معاناة جيل فقد وطنه وكرامته وأمنه وصارت عدة رزقه دون حمايتها الموت.
ولأن نظام الإجرام هو من تسبب في قفزة الأول ليلقى حتفه وفي تهجير الثاني ليلقى مصيره بالطريقة نفسها فقد أصبح مكافئًا موضوعيًا للموت.
ولأن الحياة لا يمكن ألا تكون نقيضًا للموت فلا يمكن لها أن تستمر إلا بإلقاء نظام الموت او النظام-الموت من شاهقه الذي ارتقاه على الجماجم إلى مزبلة التاريخ.