لم تتردد إدلب، ولم تتأخر في تلبية نداء الثورة الذي صدح من درعا في 18 / 03 / 2011. فقد استجابت لهذا النداء في أول مظاهرة بمعرة النعمان 25 / 03 / 2011. ومازالت تحمل جذوة الثورة المقدسة بأشكالها المختلفة وفعالياتها المتعددة حتى اليوم. ولم تتخل بعد عن هوايتها المعتادة في الحداء والغناء والهتاف كل يوم جمعة رغم الآلام والجراح. فمن يمكنه أن ينسى رحيق الأدب والفكر والفن، الذي نثرته لافتات كفرنبل، وانتشر في أقاصي الأرض كأحد الوجوه الباهرة للثورة. ومن يقدر على تجاهل البطولات الناصعة لرجال بنش وسراقب وجبل الزاوية وبقية أنحاء المحافظة في مسار السنوات التسعة الماضية؟ !

واليوم بعد أن احتضنت ” الخضراء ” ملايين السوريين من مختلف أنحاء البلاد بسعة من الحنو والوطنية والأخلاق، وصارت ” سورية الصغيرة ” تتحمل كل الأعباء والأثمان في مواجهة قوات الاحتلال الروسي وعصابات النظام والمليشيات الطائفية الإيرانية وخذلان العالم، فقد استحقت أن تأخذ مكانها المميز في قلوب السوريين وضمائر الأحرار، وعلى الشاشات والصفحات الأولى لوسائل الإعلام وعناوينها بكل اللغات.

تكشف إدلب والمجريات العسكرية والسياسية والإنسانية فيها ومن حولها – بألم ومرارة – نفاق المؤتمرين في أستانا وسوتشي وخطورة ما أورثه هذا المسار من نتائج سلبية في سياق الثورة ومواقعها وعلى حياة السوريين، وما يزال. مثلما تعري اتفاقات الدول وتناقضاتها وتخندقها وراء مصالحها ومآربها الخاصة بعيداً عن الوعود والتعهدات والادعاءات والضمانات بـ ” خفض التصعيد ” ووقف إطلاق النار وتوفير شروط الأمن والاستقرار للمنطقة والحياة والسلامة للناس مع عوامل الإغاثة الإنسانية المتوجبة. 

غير أن ” الإفلاس الأخلاقي ” الذي تكشفت عنه السياسات الدولية ومنظماتها حيال ما يجري في إدلب منذ بداية العام، يبدو ماركة مسجلة لها وسمة لهذا العصر الذي يبارك سطوة القوة والقهر المنفلتة من أي عقال، ويصمت عن حملات الإبادة والمجازر الجماعية والجرائم الموصوفة والمصنفة كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، والتي تمارس في إدلب ضد السوريين من المدنيين نساء ورجالاً وأطفالاً، ويتجاهل فظاعة الموت المتعدد الأشكال الذي يتعرضون له بما فيه الموت من الجوع والموت من البرد. في وقت يعلو فيه الصياح الدولي بالديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان.

وهنا يأتي دور الأمم المتحدة التي تحولت إلى مكتب لتعداد الخروقات وإحصاء الضحايا والاكتفاء بالتحذير من مخاطر ما يجري. مثلما صارت – ومنذ زمن – تلعب دور ساعي البريد، يتلقى رسائل الدول الكبرى، ويوزعها على المعنيين من أجل العلم والخبر، لتوضع في الملفات والأضابير على الرفوف إلى جانب القرارات الدولية التي تنجو من ” الفيتو ” الروسي، لتحفظ في السجلات الأممية والدولية تبرئة للذمة وتبريراً للمهمة والوجود.

آلام الناس في إدلب لا توصف. وتتجاوز كل ما عرف من محن في الحروب والصراعات المتوحشة والمنفلتة من أي قيود، وتشكل عاراً لهذا العصر. حيث يتعرض ملايين السوريين للإبادة الجماعية، ويتحركون على غير هدى طالبين المكان ” الآمن ” للرحيل إليه ولا يجدون. فالحدود مغلقة والعالم أعمى أصم أخرس. بعضهم ذاق مرارة الرحيل مرات ومرات، وتعرضوا لكل أنواع الموت، لأنهم رفضوا حياة الذل والمهانة والقهر، وثاروا من أجل الحرية والكرامة.

إدلب اليوم ليست حكاية ثورة فقط. إنها حكاية شجاعة وصبر وألم لشعب قرر الانتصار لحريته وكرامته.
16 /2 /2020