مطامح إيران في الهيمنة على العراق وبلاد الشام وعلى جزيرة العرب وصولاً إلى مصر شديد القدم. كانت، كلما بدا أنها حققت بعض هذا الطموح، تُرغَمُ دوماً على العودة من حيث أتت. حدث ذلك مراراً خلال عشرة قرون قبل الإسلام، ثم بدا أنه، بعد انطلاق الدعوة إليه ورسوخه بما يقرب من ثلاثين عاماً، قد وضع حدّاً لهذا الطموح. وحين قال عمر بن الخطاب ببصيرة مذهلة في استشرافها المستقبل، أثناء معارك الفتح: «وددت لو أني لم أكن بَعثتُ إلى خراسان جنداً ولوددتُ أنه كان بيننا وبينها بحرٌ من نار»، كان يبدو وكأنه يدرك أن الفتح لن يجدي شيئاً. لم يكن غريباً والحالة هذه أن يُغْتالَ ويُقتلَ على يد فارسي.
لذلك تبدو إيران اليوم/فارس الأمس، في علاقاتها التاريخية مع العرب، وكأنها لا تزال تستحضر في ذاكرتها حدثين تاريخيين: انتصار العرب في معركة ذي قار عام 592 ميلادية، واجتياحهم تحت راية الإسلام فضاءها، في منتصف القرن السابع، يوم كان عمر بن الخطاب أمير دار الإسلام. وكأنَّ مسؤوليها، أيضاً، يتذكرون ما سجله المؤرخ اليوناني هيرودوس في حديثه عن داريوس: «ولقد اعترف بسلطانه جميع أقوام آسيا الذين كان قد ذللهم كوروش ثم قمبيز، إلا العرب». لكن العرب كابدوا فارس وطموحاتها طوال تاريخهم حتى حين لم تكن لها إمبراطورية أو دولة.
ذلك أنها، بفعل وتحت ضغط التاريخ والجغرافيا، لم تكف طوال العصور التالية على القرن السابع أن تعمل كلما سنحت الفرصة على الهيمنة عن طريق الحيلة بعد أن فقدت القدرة على العمل بسواها. ولم تكن نكبة الوزراء والمستشارين البرامكة خلال العصر العباسي إلا واحدة من محاولات عديدة بدأت مع انطلاق الخلافة العباسية (أبو مسلم الخراساني) ولم تنتهِ مع دولة بني بويه.
وتحت ضغط التاريخ والجغرافيا كانت إيران في عهد الشاه تبني قوتها وهي تتطلع إلى الهيمنة على جيرانها. ولم يكن إصرارها على تسمية الخليج الذي يتقاسمه العرب والإيرانيون باسم «الخليج الفارسي» بدلاً من «الخليج العربي الفارسي» مثلاً إلا إمعاناً في تأكيد تطلعاتها. فللأسماء أيضاً دلالاتها. هكذا احتلت في يوم واحد (30 تشرين الثاني/نوفمبر 1971) ثلاثة جزر تعتبرها الإمارات العربية المتحدة جزءاً من أراضيها كي تحتكر السيطرة على الملاحة في مضيق هرمز.
لم تكن موازين القوى الإقليمية والدولية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي تسمح لإيران بالتمدد فيما وراء ذلك. لكن الثورة الإيرانية التي سرعان ما سيستأثر بها آيات الله بعد إقصاء القوى الديمقراطية قتلاً أو سجناً أو تشريداً سوف تعتمد وسيلة تتيح لها تحقيق مطامحها ذات الطابع القومي المحض أساساً دون اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية المباشرة. هذه الوسيلة هي الأيديولوجية التي يمكن بها التواجد في كل مكان دون أي اتهام بالعدوان: الإسلام في ثوبه الثوري الجديد يستعيد «مظالم» التاريخ القديم، تحت إشراف «ولاية الفقيه» المباشر أو «كسرى» الأزمنة الحديثة، ويتبنى القضايا الراهنة للمنطقة وعلى رأسها القضية العربية: فلسطين. خُدِعَ الكثيرون لاسيما حين أسكنت الثورة الجديدة سفارة فلسطين في مقر سفارة إسرائيل بطهران. حسِب الكثيرون أيضاً، ولم يكن ياسر عرفات الوحيد بينهم، أن إيران ستكون من الآن فصاعداً العمق الاستراتيجي لنضال الفلسطينيين.
ولو امتلك صدام حسين ذرة من الحكمة لاستعاد كلمة عمر بن الخطاب ولما خاض بجنود العراق حرباً لم تكن لتؤدي إلا إلى مزيد من الخراب. ولكن فضيلة هذه الحرب، إن كان للحرب فضائل، أنها كشفت الغطاء كاملاً عن استراتيجية إيرانية متكاملة سوف توضع موضع التطبيق بالتدريج مستفيدة من كل الظروف السياسية المحلية والإقليمية والدولية. إذ لم يكن وقوف حافظ الأسد إلى جانب إيران في حربها مجرد قرار عابر ولا رؤية عبقرية اختصته السماء بها. فقد أتاح من خلال قواته في لبنان التي كانت تشرف على الحرب الأهلية الدائرة فيه آنذاك فرصة ولادة الوجود الإيراني العياني عن طريق حزب الله الذي صار اعتباراً من عام 1982 ذراع إيران السياسية والعسكرية تحركها كيف تشاء متى تشاء، أو كما قال أحد مسؤوليها، إبراهيم الأمين: «نحن لا نقول: إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان ولبنان في إيران». وشأن الحركات الإسلامية في العالم العربي، والتي كانت تغذي حاضنتها بالخدمات الاجتماعية والخيرية كي تجند أكبر عدد من أبنائها، كذلك فعل حزب الله في الجنوب اللبناني، بحيث بلغ به الأمر أن صار في الداخل اللبناني أشبه بدولة داخل الدولة.
ولو امتلك صدام حسين أقل من تلك الذرة من الحكمة لما غامر واحتل الكويت عام 1990كي ينتهي به الأمر إلى مواجهة العراق القوة الأمريكية في حرب الخليج الأولى ثم تدميره في حرب الخليج الثانية دولة ومجتمعاً وتاريخاً وصولاً إلى السماح لإيران بأن تجعل منه فضاءها الحيوي.
هكذا، خلال ما يقارب عشرين سنة، وعن طريق التقارب مع دولة عربية مفتاح كسوريا النظام الأٍسدي، والاحتلال التدريجي لمركز القرار في بلد آخر لا يقل أهمية كلبنان من خلال حزب يجمع من حوله طائفة هي الأهمّ عدداً بين الطوائف الأخرى، وأخيراً ـ وليس آخراً ـ إلى وضع اليد على العراق أرضاً ومصيراً، استطاعت إيران أن تصير أحد مراجع كل قرار يخص المنطقة بعد أن باتت القوة الإقليمية التي لا يمكن تجاهلها عند اتخاذه.
سيتجلى ذلك بقوة خلال سنوات الحراك الثوري في مختلف البلدان العربية، وبقوة أكبر في سوريا حين قامت ثورة شعبها ضد النظام الأسدي. إذ لن تكتفي إيران بدعم هذا النظام سياسياً ودبلوماسياً ومالياً وعسكرياً، بل ستحرك حزب الله لدعم النظام الأسدي مثلما ستحرك الميليشيات العراقية التابعة لها أو المرتزقة الذين ستجندهم من كل مكان للغرض نفسه. أما خبراؤها من قادة الحرس الثوري فسيتواجدون في غرف العمليات وأحياناً في الميدان دفاعاً عما أطلق عليه بعض مسؤوليها المحافظة 35 من إيران!
لكن ذلك لن يكفيها بالطبع. فثوابت التاريخ والجغرافيا تشير أيضاً إلى أنها، على مر العصور وكلما سنحت لها الفرصة، لم تكن تكتفي ببلاد الشام فضاء لها. فقد كانت تغذي في الجزيرة العربية وبالطريقة ذاتها التي سلكتها في لبنان، ما يمكن أن يتيح لها ذات يوم أن تسيطر على مراكز القرار في بلدان الخليج العربي، وصولاً إلى اليمن.
فالطريقة ذاتها التي اتبعتها في لبنان، أي الاعتماد على أيديولوجية المظلوميات التاريخية، ستتبعها في البحرين، ثم في اليمن من خلال استخدام أحد مكونات الشعب اليمني، أي الحوثيين، الذين سيقومون بانقلابهم على السلطة الشرعية ويحتلون مراكز الدولة ومؤسساتها ومراكز القرار فيها. وهي الطريقة ذاتها، أيضاً، التي حاولت بها، من خلال بعض رجالها في السعودية مثل نمر باقر النمر، التواجد بما يسمح لها التأثير بهذا القدر أو ذاك على مركز القرار فيها.
ومثلما حقق التواجد الإيراني في العراق وفي سوريا وفي لبنان غرضه جاعلاً من أهداف أي حراك شعبي ثوري أضغاث أحلام، كذلك يحاول أن يفعل في اليمن جاعلاً من خروج هذا البلد العربي من أعماق القرون الوسطى إلى العصر الحديث وهماً من الأوهام.
لن يبقى هذا الزلزال الذي قامت به إيران خلال السنوات الثلاثين الماضية في المنطقة العربية دون زلزال ارتدادي يؤكد ثوابت التاريخ والجغرافيا. السؤال الأساسي: متى؟

٭ كاتب سوري

بدر الدين عرودكي

القدس العربي