عمر قدور 

الحياة  18/10/2015

في الثامن من الشهر الجاري، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً بعنوان «لم يكن لنا مكان آخر نذهب إليه»، يوثّق نماذج من حالات التهجير القسري وهدم المنازل كعقاب جماعي، أقدمت عليها قوات الحماية الشعبية الكردية في شمال سورية، وكان ضحيتها سكان المنطقة من العرب والتركمان.

في ملحق للتقرير، يتبين أن منظمة العفو الدولية راسلت صالح مسلم، بتاريخ 18/9/2015، بصفته الرئيس المشترك لمناطق الإدارة الذاتية المعلنة من جانب حزبه «الاتحاد الديموقراطي»، ولم تتلقَّ أي رد حتى صدور التقرير، ولو كان رداً مبدئياً يَعِد بدراسة ما فيه وتفنيده.

قسم من معلومات التقرير معروف لدى كثر من السوريين، إذ سبق أن تناقلته صفحات التواصل الاجتماعي، وحينها عمدت نسبة لا يُستهان بها من المثقفين الأكراد إلى إنكار ما يجري تداوله جملة وتفصيلاً، بل لم يتهاون المدافعون عن «الاتّحاد الديموقراطيّ» في اتهام كل من يتبنى الاتهامات بالداعشية. الاتهام نفسه سنراه في تقرير منظمة العفو مُستخدَماً من مسلّحي وحدات الحماية الكردية، وهم يهجّرون قرى بأكملها ثم يهدمون جميع منازلها، أو يحرقون بعضها، كعقاب جماعي، مع أن أنصار «داعش» في تلك القرى قلائل معروفون بالاسم وقد غادروها مع هزيمة التنظيم.

الشهادات الواردة في التقرير توضح أيضاً أن العقاب الجماعي لم يكن فقط بسبب الاتهام بمناصرة «داعش»، فهناك عائلات أُحرقت بيوتها بسبب انضمام فرد منها إلى الجيش الحر، فيما لم تُسجّل أي حالة عقاب اتُّهم أصحابها بالتخابر أو التعامل مع النظام.

علاوة على ذلك، تتكرر في التقرير مطالبة قوات الحماية سكانَ القرى بمغادرة منازلهم، تحت التهديد بأن تعمد إلى إعطاء إحداثيات قراهم لقوات التحالف الدولي، كي تقصفها كأهداف داعشية. هذا الاستقواء بقوات التحالف يفتح الباب على تساؤلات مشروعة تخصّ الأهداف المدنية التي قصفها طيرانه، وما إذا كان ذاك القصف بوشاية محلية ذات طابع كيدي.

تقرير منظمة العفو يدعو التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، إلى «اتخاذ تدابير عاجلة تكفل عدم إساءة استخدام الإدارة الذاتية ما تحصل عليه من مساعدات عسكرية، بما في ذلك التنسيق في العمليات العسكرية لعدم استغلاله في ارتكاب انتهاكات للقانون الإنساني الدولي، كعمليات الهدم والتهجير غير المشروعة». ولا شك في أن دعوة المنظمة تكتسب إلحاحاً أكبر مع أطنان الأسلحة التي ألقتها طائرات التحالف أخيراً، وخصّت بها وحدات الحماية بزعم دعم المعارضة السورية المعتدلة.

جرائم الحرب، وفق توصيف منظمة العفو، ليست حكراً على وحدات الحماية، فهناك اتهامات أيضاً موجهة إلى فصائل من الجيش الحر، على خلفية انتهاكات في حق سكان قريتين كرديتين في ريف حلب الشرقي. ومع التنويه بأن جزءاً معتبراً من الانتهاكات لا تمييز فيه على أساس العرق أو الدين، فإن لانتهاكات قوات الحماية وقعاً مختلفاً لأنها تقوم على عاملين، أولهما الثأر للمظلومية الكردية، وثانيهما قيام سلطة الإدارة الذاتية تحت زعم الديموقراطية والتعددية، ما ينبغي أن ينفي العامل الأول.

إذا اقتربنا من الواقع، رأينا المجلس التشريعي للإدارة يسنّ قانوناً يبيح لها السيطرة على أملاك النازحين المنقولة وغير المنقولة، بذريعة وضعها للنفع العام الذي تمثّله الإدارة نفسها، أي أننا أمام سلوك ممنهج يأخذ شرعيته بغطاء سياسي و «برلماني» ويصعب ردّه إلى تصرفات فردية تخصّ أمراء الحرب.

الأهم من ذلك، الوجهة التي يسوق فيها «الاتحاد الديموقراطي» أكراد سورية، بصفته سلطة الأمر الواقع، وهي وجهة تضعهم على تضاد مع محيطهم العربي الذي تغلب عليه معاداة النظام، النظام البعثي الذي طالما شكا الأكراد من التمييز الذي يمارسه في حقهم! وإذ ينبغي الحذر بشدة من وضع عموم الأكراد و «الاتحاد الديموقراطي» في سلة واحدة، فإن الواقعية تقول بأن ما يفعله الحزب الآن قد تكون له انعكاسات على عموم أكراد سورية، مع أن جزءاً مهماً من سلوك الحزب مبني على تبعيته للحزب الأم، «حزب العمال الكردستاني»، ومبني تالياً على تطورات القضية الكردية في تركيا، لا على مصالح الأكراد السوريين في الدرجة الأولى.

ولئن كانت أنظار أكراد سورية موجهة إلى العراق قبل ربع قرن، وتستلهم تجربتي مهاباد في إيران والبرزاني في العراق، فإن انتشار «الكردستاني» في سورية منذ ذلك التاريخ انتزع القسم الأكبر وجعله تابعاً كلياً للمركز الكردي في تركيا، وضحى بأرواح آلاف الشابات والشبان كرمى لمعركة المركز.

كما هو الأمر في التجارب الفاشية عموماً، ومنها تجربة البعث السوري، لا يفيد كثيراً القول بأن الفاشية تستهدف جمهورها على الدرجة نفسها التي تستهدف بها الآخر. هنا، قد لا يفيد التذكير بأن حزب العمال السوري متهم قبل ما لا يقل عن عقدين باغتيالات أو بمحاولات اغتيال استهدفت كوادر أحزاب كردية منافسة، وأن تلك الأعمال جرت وسط تجاهل مريب من مخابرات النظام، وقد لا يفيد التذكير بإطلاق وحدات الحماية النار على متظاهرين أكراد مناصرين للثورة ضد النظام في مدن عامودا والقامشلي وكوباني، لأن الحساسية العربية الكردية قد تطغى لتغطي على الانتهاكات ضمن «البيت الواحد».

كان الظن السائد مع مستهل الثورة أن الأكراد سيكونون في طليعتها، الأمر الذي تعزز مع المشاركة الضخمة للشباب الكردي في تظاهرات الأشهر الأولى، ومن دون أن نعفي المعارضة «العربية» من مسؤولياتها، كانت لـ «حزب الاتحاد الديموقراطي» اليد الطولى في لجم الحراك الكردي المناوئ للـــنظام، وكانت الذريعة التخويف من البديل الذي سيكون أسوأ من النظام، بدل الانخراط في الحراك لصياغة البديل المناسب.

لا نستثني من التأثير تلك المصالح المحلية الضيقة جداً، فبعض مواقع اشتباك وحدات الحماية مع الجيش الحر يحتوي على آبار نفط، وقّعت الأولى مع النظام عقوداً مأجورة وموثقة لحمايتها من المعارضة.

في الوقت الذي يحتفظ فيه «الاتحاد الديموقراطي» بعلاقات حسنة مع روسيا وإيران والنظام، فعلاقته متوترة مع محيطه العربي السوري، وأيضاً علاقته ليست على ما يرام مع حكومة كردستان العراق، وعداؤه لتركيا أشهر من أن يُشار إليه. كيف لحزب أن يقود شعباً وهو يعادي محيطه الجغرافي بأكمله؟