لم يستمر نظام البعث أربعة عقود بسبب اتكائه على الطائفية وانتهاجه سياسة القمع، فهذان العاملان لم يمنعا سقوط غيره من الأنظمة السلطوية الشعبوية، وإنما ساعد في تثبيت دعائمه سيرورة تاريخية بدأت منذ أواخر الأربعينيات، وأخذت محتوى سلطوياً استلهمه البعثيون في عهد الوحدة وتبلورت في شكل سلطوي صلب منذ استلام البعثيين للسلطة علم 1963.

كان عهد الوحدة درساً للبعثيين يفيد أن سلطوية ناصر الرخوة ليست قابلة للاستمرار، فكرسوا سلطويتهم الصلبة وهو ما استثمره حافظ الأسد منذ استلامه للسلطة باقتدار عندما خنق الحياة السياسية في سوريا وحوّل نظام الحكم إلى نظام عصابة مافيوية مستفيداً من ظروف موضوعية رافقت سنوات حكمه، ولأن للتجربة جذوراً راسخة فإن التحولات التي عصفت بالعالم في بداية التسعينيات وأطاحت بالعديد من الأنظمة الشعبوية لم تفلح في اقتلاع جذور نظام البعث السوري.

السلطة العائلية الطائفية لم تفسح منفذاً واحداً مهما كان صغيراً للممارسة السياسة، وقد اطمأنت بعد أحداث الثمانينيات والمواجهة الدامية مع تنظيم جماعة الإخوان المسلمين المسلح إلى أن تحقيق التوازنات الإقليمية والدولية ورفع العقيرة بالشعارات الإيديولوجية هو كل السياسة بألف ولام التعريف، وأن الحياة السياسية الداخلية تقتصر فقط على ذراع السلطة الثقيلة ممثلة بأجهزة الأمن فكانت سلطة بلا سياسة.

ولهذا فإن هذه البنية لم تجد في حوزتها ما تواجه به الثورة الشعبية إلا أدواتها السلطوية، واستفزاز النعرة الطائفية ودفعها إلى حدودها القصوى ولما تطاول زمن الثورة وأثبت أن هذه الأدوات لا تنفع لوحدها عمدت هذه السلطة إلى استجلاب دعم يعوض النقص المتمثل بانعدام السياسة بتسليم الساحة السياسية لأجندات حلفاء النظام السياسية مقابل ما يقدمونه من عون يمنع الانهيار.

أما المعارضة السياسية العطشى لممارسة السياسة التي حرمت منها عقوداً طويلة فقد فاجأها عظم الحدث واصطفت إلى جانب الحراك الشعبي تريد أن تلحق به عبر استرضائه وتستمد منه قوة وسلطة تدعم أداءها السياسي.

فشل المجلس الوطني لأسباب موضوعية وذاتية واستيلاد كيان جديد على يد قابلة ليست سورية هو الائتلاف الوطني مثل هذا الظرف من افتقاد السياسة المعارضة للسلطة، واضطرارها إلى الاستقواء بحلفاء وأصدقاء يمكن أن يشفعوا السياسة بقدر من السلطة.

وبدل أن يتحقق ذلك كانت النتيجة استلاباً للقرار السياسي أضيف الى فقدان السلطة. وكان هذا أحد العوامل التفسيرية لظاهرة اختراق مؤسسات المعارضة من قبل شخصيات ورؤى لا علاقة لها بقضية الشعب السوري ومطالبه المحقة.

ولم يكن غريباً -والحالة هذه-أن تستمر ظاهرة الاختراق من قبل هذه الاجسام الغريبة وتصبح أكثر توقحاً في الإعلان عن نفسها ومراميها في هيئة التفاوض التي انبثقت عن مؤتمر الرياض.

نظام استبدادي لا يمتلك إلا إرادة السلطة بدون سياسة، ومعارضة لا تملك إلا إرادة العمل السياسي الذي حرمته أربعة عقود بدون حد أدنى من امتلاك السلطة.

وتيارات جهادية يجمع بين المعتدل والمتطرف منها ما أطلق عليه وليم جيمس إرادة الاعتقاد التي تشكل الناظم لما تحوزه من سلطة وما تمارسه من سياسة.

التيارات المقودة بإرادة الاعتقاد والتي تنوء بما تحمله من اعتقادات تريد فرضها على الجميع لا يمكن أن تمثل قيادة لثورة افتقدت إلى القيادة.

ثلاث إرادات: إرادة سلطة بدون سياسة، وإرادة سياسة بدون سلطة، وإرادة اعتقاد لا تأبه إلا لسلطة وسياسة تخدم معتقدها الغيبي الشمولي الدو غمائي أحالت الساحة السورية إلى أرض تعبث بها كل هذه الأطراف المشاهدة اليوم والتي لا تعنيها قضية الشعب السوري المحقة وتضحياته العظيمة في سبيل حريته وكرامته في شيء. وتدفع بهذا الشعب إما إلى عرض البحر أو إلى السماء.