حتى الآن، يظهر أن الآثار السياسية الدولية والإقليمية لتدخّل موسكو في سورية أكبر من تدخّلها في الميدان، وما بُني من تحليلات عليه يصبّ غالباً في منحى التسليم بقدرة موسكو على احتكار نظام بشار الأسد، ومن ثم تقرير مصيره. في هذا الإطار، يمكن تأويل استدعائه إلى موسكو الثلثاء الماضي. فمَن يقدر على إخراجه من مكمنه وإعادته إليه لا بدّ أن يكون قادراً على إخراجه بلا عودة، أو على إرغامه على البقاء فترة يُتفق عليها تحت المراقبة والوصاية.

ذلك لو لم تكن رسالة موسكو واضحة، في الإعلان عن الزيارة نفسها، من خلال تأكيد، في نهاية اللقاء، «أن العمليات العسكرية يجب أن تتبعها خطوات سياسية»، وهو إعلان «لمن يريد التذكر حقاً» لا يبارح موقفي موسكو والنظام في «جنيف 2»، عندما أصرا على بحث بيان «جنيف 1» بدءاً من بند «مكافحة الإرهاب»، وعدم التفاوض على المرحلة الانتقالية قبل التفاهم عليه.

تكذب موسكو في نقطتين شديدتي الوضوح، وتكذب علانية أيضاً، مع هذا ثمة من يصدّقها أو يودّ تصديقها. الأولى منهما، إعلانها أنها لا تدافع عن شخص الأسد، وإنما عن مؤسسات الدولة السورية. الثانية منهما، المتصلة بالأولى، أنها تعمل ضمن إطار الشرعية الدولية، وضمن إطار سيادة الدول، وعليه أتى تدخّلها بطلب من السلطة الشرعية في دمشق. في مناسبات عدة، سنرى موسكو تفنّد مراوغتها، إذ تعتبر بشار الأسد رئيساً منتخباً في شكل شرعي، وعليه فهو يمثّل مؤسسات الدولة السورية. وعندما تعقد بروتوكولات للتحليق في الأجواء السورية بينها وبين تل أبيب، وبينها وبين الولايات المتحدة التي، وفق زعمها، تتدخل خارج الشرعية الدولية، فإنها في الواقع تنقض مسألة السيادة الوطنية.

لرؤية الموقف الروسي كما هو، الدفع بقضيتي السيادة والشرعية له غاية وحيدة، تتلخص في إبقاء مؤسسات النظام على ما هي عليه، أو منع أي تغيير جوهري يمس بنيته مثل هيئة الحكم الانتقالي المقترحة من عديد الدول الغربية والإقليمية.

معلوم أن أداء الطيران الروسي الميداني يكذّب الادعاءات حول محاربة «داعش»، فالغارات استهدفت في المقام الأول، فصائل الجيش الحر والفصائل الأكثر اعتدالاً، وهو أداء لا يختلف حقاً عن أداء النظام وأداء الحرس الثوري الإيراني وميليشياته الشيعية. على رغم هذا، ثمة من يودون تصديق وهم انقضاء المرحلة الإيرانية وبدء المرحلة الروسية، مع منح الأفضلية للأخيرة على قاعدة خلوها من البعد المذهبي، وإعادتها هيكلة النظام كنظام، بعد غلبة الطابع الميليشياوي عليه بفضل الرعاية الإيرانية.

تصديق الوهم يقتضي التغاضي عن واقع التنسيق التام بين الطيران الروسي والميليشيات الشيعية، والتغاضي عن واقع قدوم آلاف جديدة من عناصر الميليشيات دعماً للحملة الجوية، فضلاً عن تجنيد المرتزقة من روسيا ومن بعض الجمهوريات السوفياتية سابقاً.

ربما لا يكون تدخل موسكو مصدر سرور تام لطهران، لأنها ستقاسمها النفوذ في منطقة روّجت لوقوعها تحت سيطرتها المطلقة، غير أن فشل طهران يقنعها بتقاسم النفوذ مع موسكو، بوصفه أقل ضرراً من فقدانه كلياً. أما أن تكون موسكو قد احتكرت السيطرة على النظام، هكذا من دون أدنى مقاومة إيرانية، فالأمر عصي على التصديق مهما رُوّج له. حتى ما يُشاع عن تململ رؤوس النظام من الهيمنة الإيرانية وتوسلهم التدخل الروسي، لا يخدم فكرة استبدال وصي بآخر، إذ من مصلحة الزمرة الحاكمة، المصلحة التي لا تحتاج عبقرية لإدراكها، ألا تبقى أسيرة مقتضيات النفوذ الإيراني وحده، وتالياً تحت ضغط صفقة إيرانية منفردة.

ما تدركه موسكو، أن عقوداً من التعاون مع جيش النظام لم تبنِ لها نفوذاً فيه، وأن طبيعته الميليشياوية التي أرساها نظام الأسد، أقرب إلى طبيعة الحرس الثوري، لذا يبدو استعراض النفوذ الروسي اليوم على «مؤسسات» النظام طارئاً جداً، ولا يعدو كونه بهرجة إعلامية موجهة الى الخصوم.

نعم، تستطيع موسكو إزاحة الأسد بعملية عسكرية خاصة، وهذا ما لن تفعله في أي وقت، وتستطيع إزاحته سلمياً أو بانقلاب أبيض، بشرط التنسيق مع طهران.

أهم ما في التكتيك الروسي حتى الآن، أنه موجه إلى الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة، بما فيه تهديدها من مغبة تزويدها بمضادات طيران. العملية العسكرية الروسية لم يرافقها تحرك سياسي تجاه المعارضة، حتى تلك المقرّبة من موسكو والمرحّبة بتدخلها، في إشارة واضحة إلى أن المسار السياسي مؤجل ومعلّق على التقدم الميداني، وفي إشارة أوضح إلى عدم رؤية تطلعات السوريين، بل النظر إلى الصراع بمجمله كصراع خارجي، وعليه يكفي ترهيب بعض الخارج وترغيب بعضه الآخر حتى ينتهي.

هذه النظرة يمكن عدّها في صلب عقيدة الكرملين، وفي صلب «ديموقراطيته» الخاصة، ديموقراطية الباب والنافذة بين بوتين وميدفيديف. مقاومة التغيير أصيلة هنا، ولعلها أبرز ما ورثته موسكو عن الحكم الشيوعي، ولا يوجد مثال واحد على إيجابية في التعاطي مع التغيير بدءاً من يوغوسلافيا السابقة وصولاً إلى أوكرانيا.

ما تفترق فيه موسكو عن طهران، قدرتها على التواصل مع داعمي المعارضة الإقليميين، ومراهنتها على اجتذابهم أو ترويضهم، لأنها فقط بمثل هذا التكتيك تضمن الحسم العسكري لمصلحتها. علاوة على ذلك، تدرك أن الحسم العسكري يستوجب لاحقاً إعادة الإعمار، مع التشديد على هذه النقطة لأهميتها ضمن التسوية المقبلة، بمعنى أن أية تسوية مقبولة روسياً ستلحظ ما أنفقته موسكو وطهران وما ستنفقه دول الإقليم الأخرى مستقبلاً لتكون شريكة فيها.

ما تضخه الدعاية الروسية غير متقن كفاية، وتكفي متابعة قناة «روسيا اليوم» التي تسير تماماً على خطى إعلام النظام السوري من حيث تضخيم القدرات الذاتية و «الانتصارات». أطرف ما في الأمر، أن تحاول موسكو اجتذاب خصوم النظام كأنهم أيضاً يملكون أزرار تحكم تنهي الصراع برمته. إنكار الداخل السوري على هذا النحو سيضمن فشل أية صفقة مقبلة، وعلى من يود تصديق موسكو الانتباه جيداً إلى تعقيدات الداخل الذي تصعب السيطرة عليه مهما بدا الاستثمار فيه سهلاً. ربما تبدو كلمة «الداخل» غريبة بعض الشيء، مع ذلك هي أكثر واقعية وأسهل تصديقاً من الأوهام الروسية.

عمر قدور الحياة ٢٥ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٥