ليس السؤال بقصد الإثارة، بقدر ما هو سؤال تفرضه تحولات المواقف الأردوغانية، على الأقلّ منذ انطلاق ثورات الربيع العربي التي تباينت في حدتها، وتنازعها الحذر المشوب بالتعاطف حيناً، والتأييد المطلق لانتفاضة الشعوب العربية ضد جلاديها أحياناً أخرى..

وكان واضحاً أن التصعيد في الموقف المؤيد لهذه لثورات قد تلازم مع الثورة المصرية، ووصل إلى حدّ التدخل المباشر مع الثورة السورية وهو ما لم يمكن فصله عن الهوى الإسلامي لحزب العدالة والتنمية، ومحاولة اهتبال الفرصة التاريخية لتعظيم الدور الإقليمي الذي يفترض أن حيزه الجيوسياسي هو العالم العربي الإسلامي.

لم يستمع أر دوغان عندما أعلن موقفه المناهض للنظام السوري لنصائح رجال الاستخبارات التركية من ذوي الخبرة العريضة بضرورة النأي بتركيا عن الانخراط في الأزمة السورية لما يمكن أن يتسبّب به هذا الانخراط من مشاكل لتركيا بسبب طبيعة النظام السوري الذي يملك من الأوراق الإقليمية والسلوك الإجرامي ما يمكّنانه من دفع الأحداث إلى مآلات غير محمودة.

الطموح لتعظيم الدور مع الحسابات الخاطئة، والمزاج المتعاطف مع الصبغة الإسلامية للثورة كانت إغراءات لا قبل للزعيم التركي بمقاومتها، ويأتي في الدرجة الثانية التعاطف مع المستضعفين في ثورتهم ضد الطغيان.

تسليم الملف السوري للأمنيين وتفاعلات الأزمة السورية قلبت ظهر المجنّ على حليف الثورة، وجعلت الأخطار تدهم حدوده وتصل في الفترة الأخيرة إلى عاصمته التي ظنّ أنها محصّنة كما كان شأنها عبر معظم مراحل التاريخ.

إسقاط الطائرة الروسية الذي كان خطأ استراتيجياً لم يستطع صانع القرار التركي أن يواجه نفسه به في البداية بدافع من كبريائه، أصبح حدثاً يتدحرج في نتائجه ككرة الثلج إلى أن اضطره أخيراً إلى الرضوخ أخيراً للطلب الروسي بالاعتذار.

النظام الحاكم في تركيا حقّق معجزة فيما خصّ النهوض بالبلاد إلى مصاف البلاد المزدهرة اقتصادياً، وترسيخ الممارسة الديمقراطية ولكنه لم يستطع أن يطيح بالدولة العميقة التي ظلّت أركانها المتمثلة في رجال العسكر والاستخبارات، ورجال الأعمال، والجماعات الصوفية تلعب دوراً كبيراً في التأثير على قراراته ومواقفه السياسية.

وهو ما تجلّى في هبوط أسهم الحزب في الانتخابات الأخيرة لما سبّبته محاولاته التوفيقة مع هذه الدولة العميقة من نتائج انعكست على مصداقيه لدى الناخب التركي، وعلى وضع الأخير الاقتصادي الذي تأثر بالفسحة الممنوحة لرجال الأعمال الفاسدين في مسعى أرد وغاني لتحقيق قفزات نوعية في معدلات التنمية بغضّ النظر عن ممارسات الفساد.

أر دوغان الزعيم الكاريزمي ذو الشخصية القوية لم يغفل عن واقع القوى التي تشاركه التأثير في القرار، فاجترح لذلك صيغة لا تحرفه بعيدا عن طموحاته، ولا تحفر الخنادق بينه وبين هذه القوى.

ولهذا فإن ما بدا من ارتباك في المواقف منذ انطلاق ثورات الربيع العربي لم يكن إلا مظهراً من مظاهر محاولات تحقيق التوازن الذي تتطّلبه تلك الصيغة.

ولكن الأمر الجدير بالانتباه أنه استطاع أن يحجز لنفسه مقعداً داخل هذه الدولة العميقة التي لم يكن ليستطيع الصمود في وجه الأزمات التي عصفت بالبلاد لو لم يتمكن من تثبيت قدم له داخلها.

لطالما خطبت الأنظمة السياسية التي تعاقبت على تركيا ودّ الجماعات الصوفية، ولكن الأمر مع أر دوغان اليوم قد أصبح معكوساً إذ صارت هذه الجماعات هي من يخطب ودّه لما أثبته من براغماتية ومرونة في التعاطي مع خريطة القوى الداخلية.

أر دوغان الذي نبهته الأخطار التي تحيق بحزبه وبلاده اليوم بقوة إلى أخطائه ينحو إلى ممارسة هذا القدر من المرونة والبراغماتية في الشأن الخارجي، ويقدم لذلك اعتذاراً لروسيا بلسان مزدوج: لسان الزعيم الإسلامي صاحب الطموح الكبير لجعل تركيا في مصاف الدول الأولى في العالم وما يتطلبه ذلك من تصحيح مستمرّ للمنهج ومراجعة مستمرة للمواقف، ولسان الدولة العميقة اتي ينطق باسمها كأحد أركانها وليس كمداهن لها.

رئيس التحرير