12/ 10/ 2015
مركز الجزيرة للدراسات

 

بالرغم من أن روسيا ظلَّت منذ اندلاع الثورة السورية في 2011 المصدر الرئيس لتسليح نظام بشار الأسد،

وأن خبراء روسيين تواجدوا طوال الوقت في سورية، فليس ثمة شك في أن انخراط روسيا المباشر في القتال، حتى إن ظل على مستوى سلاح الجو، يعتبر تصعيداً نوعيّاً في التدخل الروسي في سورية. وقد أثار هذا التصعيد ردود فعل واسعة النطاق، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.

لقد دُرِس قرار التدخل في سورية بعناية في موسكو، وربما بدأ العمل عليه منذ مايو/أيار الماضي على الأقل، وبالتفاهم مع إيران، الحليف الرئيس الآخر لنظام بشار الأسد. ولذا، فلابد أن يُنظر إلى الدوافع الروسية خلف هذه الخطوة من زاويتين، زاوية تفصيلية، تتعلق بتطورات الصراع على سورية، وزاوية استراتيجية تتعلق بتصور روسيا لدورها وموقعها في الساحة الدولية.

وقد تبدى أن مشكلة النظام العسكرية الرئيسية لا تتعلق بالمعدات والذخائر، بل بعجزه المتزايد عن توفير العنصر البشري المدرَّب جيدًا لرفد قواته المسلحة، المنهكة والمتآكلة. كما أن الخبرات القتالية المتراكمة لمجموعات الثوار السوريين والدعم التسليحي الجيد نسبيّاً، الذي وصلهم خلال هذا العام، جعلها أكثر قدرة على مواجهة تفوق النظام المطلق في الجو، بحيث انحصرت نتائج هذا التفوق في المجازر التي تُوقِعها طائرات النظام في صفوف المدنيين أكثر من أثرها الفعَّال في جبهات القتال.

والتدخل الروسي لم يأتِ لمجرد إنقاذ النظام من التراجعات المستمرة والمخاطر التي باتت تهدد وجوده وحسب، بل ضمن إطار وحسابات استراتيجية روسية أوسع أيضاً. فمنذ الأزمة الجورجية في 2008، على الأقل، وبعد أن استطاع بوتين إعادة التماسك السياسي والاقتصادي للدولة الروسية، اعتبرت موسكو أن من حقها أن تكون شريكاً، ولو ثانياً، في القرار الدولي. في المقابل، لم تقم الولايات المتحدة، لا في سنوات إدارة بوش الابن الأخيرة، ولا طوال السنوات السبع الماضية من إدارة أوباما، بالاعتراف لروسيا بمثل هذا الدور.

وما إن أقدمت روسيا على ضم القرم وتشجيع المقاطعات الأوكرانية الشرقية على التمرد، بعد الإطاحة بالنظام الموالي لروسيا في كييف، حتى فرضت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية عقوبات اقتصادية ومالية على روسيا كأنها ليست أكثر من دولة مارقة على النظام الدولي. ولا يخفى أن العقوبات الغربية، التي جاءت في فترة تراجع حادٍّ في أسعار النفط، تركت أثراٍ بالغًا على الاقتصاد والمالية العامة الروسية.

من هنا وفَّرت الحرب في سورية فرصة لتوكيد دور روسيا على المستوى الدولي، في مواجهة تجاهل واستخفاف غربيين، وردّاً على ما تراه موسكو حصارًا غربيًّا استراتيجيًّا واقتصاديًّا. وحتى من الناحية الاستراتيجية المجردة، وبغضِّ النظر عن العلاقات الروسية-الغربية المتوترة، تحتفظ موسكو بقاعدة بحرية عسكرية في طرطوس، هي القاعدة الوحيدة للروس في حوض المتوسط، ومركز تنصت تجسسي رئيس في جبال اللاذقية، هو الوحيد في الشرق الأوسط. وتعتقد موسكو أن انهيار النظام في دمشق، أو الإطاحة به في صفقة سياسية لا دور لروسيا فيها، سيؤدي بالضرورة إلى خسارة قاعدة طرطوس البحرية ومركز التنصت في اللاذقية.

أضف إلى ذلك أنه ومنذ انهيار الكتلة الشرقية إلى انهيار النظام الموالي لموسكو في أوكرانيا، يجد بوتين في الحرب في سورية فرصة للوقوف أمام الاندفاعة الغربية الديمقراطية. ولا يتعلق قلق روسيا اليوم بمستقبل سورية وحسب، بل وأن تستمر الاندفاعة الغربية الديمقراطية بلا رادع نحو وسط آسيا، التي لا تقل ديكتاتورياتها عن نظام الأسد.

الآثار الإقليمية والدولية للاحتلال الروسي

من الجهة القانونية الدولية، فقد أخذ الاحتلال غطاء قانونياً (ولا يعني أنه قانوني أنه أخلاقي)، تمثَّل في طلب دمشق الرسمي من موسكو المساندة العسكرية، سيما أن نظام دمشق لم يزل معتَرَفاً به دوليّاً وهو الممثِّل لسورية في المنظمات الدولية.

جاءت ردود الفعل الدولية والإقليمية خلال الأسبوع الأول من العمليات الروسية مرتبكة ولم ترتقِ إلى مستوى التحدي. وفي 2 أكتوبر/تشرين الأول، أصدرت سبع دول (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وتركيا، والسعودية، وقطر) بياناً مشتركاً ضد التدخل الروسي. في اليوم نفسه، صدر عن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تصريح ذو جانبين؛ فمن جهة أكَّد على أن واشنطن لن تلجأ إلى استخدام سورية ساحة حرب بالوكالة مع روسيا، ومن جهة أخرى قال: إن سورية ستتحول إلى مستنقع للروس.

والحقيقة، أن الولايات المتحدة ومنذ بداية الانتفاضة، لم تُبدِ اكتراثاً جادّاً بمصير سورية، وقاومت ضغوط حلفائها في الجوار السوري لمزيد من التدخل. ولكن الانخراط الروسي العسكري المباشر يرفع من مستوى الرهانات، وقد يجعل من سورية بؤرة تحد روسي لدعوة واشنطن وحلفائها الإقليميين إلى حلٍّ في سورية لا يشمل بشار الأسد. وفي حال قررت الولايات المتحدة وتركيا والسعودية وقطر خوض مواجهة مع الروس في سورية، فليس ثمة شك أن باستطاعتها إفشال بوتين أو جرَّه إلى معركة استنزاف طويلة، وسيشكل عبئاً معنوياً واقتصاديّاً هائلاً على رئاسة بوتين، المثقلة بالأعباء أصلاً (اقرأ أيضاً: . قراءة في الاحتلال العسكري الروسي لسورية والموقف الأميركي منه)

مثل هذه المواجهة يمكن أن تُنجَز على مستويين:

الأول: يتمثَّل في توفير دعم عسكري متزايد ومستمر لمجموعات الثوار على مستوى السلاح التقليدي، الذي أتاهم طوال العامين الماضيين. وربما كانت المعركة الناجحة التي خاضها الثوار في ريف حماة صباح يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وأوقعت خسائر فادحة في قوات النظام المهاجمة، مثالاً على ما يعنيه توفر مضادات الدبابات والرشاشات الثقيلة لمجموعات الثوار. أمَّا المستوى الثاني، فيتعلق بتقديم صواريخ مضادة للطائرات للثوار السوريين من قبل الدول الداعمة، تهدد فعالية سلاح الجو الروسي، وتدفع الصراع إلى مستويات عالية وغير مسبوقة.

هذا لا يعني بالطبع أن التصعيد في التدخل الروسي في سورية لم يجد مؤيدين؛ فإلى جانب التأييد المتوقَّع من إيران وحزب الله، والتأييد الخفي من العراق، أبدت القاهرة تأييداً خجولاً للخطوة الروسية، ولوحظ غياب الإمارات والأردن عن بيان الدول السبع المندِّد بالتدخل الروسي، بالرغم من أن الإمارات والأردن عضوتان في التحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة”. كما لوحظ أن الجامعة العربية أحجمت عن عقد اجتماع لمناقشة الخطوة الروسية، حتى بعد أن تكرر طلب التحالف الوطني السوري المعارض عقد مثل هذا الاجتماع؛ مما يعني أن الخلافات العربية حول تطورات الوضع في سورية تتجاوز مواقف الأردن والإمارات والعراق ومصر.

الموقف الإسرائيلي ليس بعيداً عن تأييد الخطوة الروسية. وليس ثمة شك في أن الانطباعات التي تركتها زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لموسكو، والسرعة التي تم بها عقد لقاء التنسيق العسكري بين الجنرالات الإسرائيليين والروس، وتوكيد بوتين في خطاب الجمعية العامة على مصالح الدولة العبرية في سورية، تشير جميعاً إلى توافق روسي-إسرائيلي حول الدور الذي باتت موسكو تلعبه في سورية. (اقرأ أيضاً: لجنة عسكرية روسية إسرائيلية مشتركة للتنسيق في سورية).

وعلى الرغم من أنه من المبكر جداً الحكم على مآلات الحرب الروسية في سورية إلا أنه وعلى المستوى المباشر للوضع في سورية، ثمة احتمالان رئيسان:

الأول: أن تساعد هذه الخطوة على الإسراع في مسار الحل السياسي. بمعنى أن تصل أطراف الأزمة الدولية والإقليمية إلى قناعة بأن قواعد اللعبة في سورية قد تغيرت وأن اللجوء إلى مواجهة التدخل الروسي بتصعيد الدعم للثوار السوريين لن يأتي بنتيجة وسيزيد من معاناة الشعب السوري ومن معدلات اللجوء من سورية إلى دول الجوار وأوروبا. ومن جهة أخرى، يمكن أن يتطور الموقف الروسي نحو التخلي عن هدف استمرار بشار الأسد في الحكم، سيما إنْ رأى الروس أن وجودهم العسكري الملموس سيضمن استمرار وتماسك ما تبقى من مؤسسات الدولة السورية والإتيان بقيادة بديلة لمجموعة الأسد، تحافظ على العلاقات مع موسكو والمصالح الروسية في سورية. في هاتين الحالتين، يُتوقَّع أن تنعقد مجموعة الاتصال حول سورية قريباً، وربما تصبح قناة التوصل إلى حلٍّ توافقي للأزمة.

الاحتمال الثاني: أن تصب الخطوة الروسية في اتجاه المزيد من تعقيد الوضع، وتصاعد حدَّة الصراع؛ سيما إنْ قررت الدول الداعمة للثورة السورية، أو حتى بعض هذه الدول أن زمن الحل السياسي لم يأتِ بعد وأن من الضروري إفشال التدخل الروسي-الإيراني قبل التفكير في طبيعة الحل الممكن للأزمة. في هذه الحالة، سترتفع حدَّة الصراع إلى مستويات جديدة، وتصبح سورية عرضة لمزيد من الدمار والخسائر البشرية، ويشهد الجوار السوري موجات لجوء سوري جديدة وكبيرة. ولكن ثمة ما هو أكثر فداحة وأخطر؛ إذ ليس من المستبعد أن تتسع ساحة الصراع لتشمل العراق أيضاً، وأن تزداد احتمالات الصدام الروسي-التركي. ومن المؤكد أن تتزايد معدلات تدفق المقاتلين الإسلاميين من غير السوريين على سورية، وأن تستطيع جماعات مثل تنظيم الدولة وجبهة النصرة تعزيز قوتها ونفوذها.

وعليه فإنه من الواضح أن مشروع إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري، الذي تبنَّته تركيا أصبح غير ممكن عمليّاً بدون صدام مسلح مع الطيران الروسي.

على المستوى الميداني، ومهما بلغ عدد الغارات الجوية يوميّاً، من المستبعد أن تحقق العمليات الروسية انقلاباً سريعاً في ميزان القوى. فبدون تواجد عسكري فعَّال على الأرض، لن يستطيع الطيران الروسي سوى الحفاظ على مواقع النظام الحالية ومنع المزيد من تقدم جماعات المعارضة السورية.

على مستوى الرأي العام، تحولت روسيا باحتلالها العسكري في سورية إلى هدف لكراهية القطاع الأكبر من الشعوب العربية والإسلامية، وباتت تُرى اليوم من عموم العرب والمسلمين، وبصورة تفوق حتى حقبة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، باعتبارها قوة إمبريالية، تقف ضد خيارات الشعوب وإرادتها، مما قد يمر زمن طويل قبل أن تستطيع موسكو محو هذه الصورة السلبية.

الأثر الأخطر للخطوة الروسية، ما صدر عن الكنيسة من توصيف الحرب في سورية باعتبارها حرباً مقدسة، يهدِّد بزرع الكراهية والانقسام في صفوف عرب المشرق. فاليوم، وفي حال تعقد الصراع وتكرر دعم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لحرب بوتين في سورية، فإن العلاقات الإسلامية-الأرثوذكسية ستتعرض لمحنة كبيرة.

سيعتمد مدى وزمن العمليات الروسية في سورية على حقيقة الهدف من الانخراط الروسي المباشر في الأزمة. إذ ليس من الواضح بعد ما إن كان هدف موسكو الحفاظ على نظام الأسد وسيطرته، وتأمين هذه السيطرة، ضمن دائرة وجود النظام الحالية في محيط دمشق والساحل العلوي وحمص وحماة؛ أو أن الهدف مساعدة النظام على استرداد سيادته الكاملة على كافة الأراضي السورية؛ أو حتى إيجاد مناخ وميزان قوى مُواتٍ لحل سياسي. كما أن اتضاح حقيقة الهدف الروسي من العمليات، هذا إن قامت موسكو بالإفصاح عن هذا الهدف فعلاً، سيحدد أيضاً طبيعة ردِّ فعل القوى الإقليمية والدولية المؤيدة للثورة السورية، التي أعربت عن معارضتها للتدخل الروسي.

تاريخ النشر من المصدر:
12/ 10/ 2015
المصدر:
مركز الجزيرة للدراسات