لم يستطع جورج طرابيشي وهو الكاتب غزير الإنتاج أن يكتب أكثر من مقالتين خلال الحرب في سورية، ربما لأن للدمار الحاصل في وطنه قدرة على تجفيف مداده، ولأن عمق المفكر وهدوءه لا ينسجمان مع نقد أحداث حبلى بالجديد في كل دقيقة.

شهد سنوات الحرب الماضية إلى حين إعلان الروس قرار سحب قواتهم من سوريا وانبثاق الأمل باتجاه مسار الحرب إلى نهايته وربما مسّ روحه قدر من السكينة جعلته يكفّ عن مصارعة الموت.

قال إنه كان سعيداً بثورات الربيع العربي وتمنى أن تسفر عن صبح بقسمات حداثية وعلمانية وديمقراطية، ولكنّ ما آلت إليه الأحداث كان دماراً واستقطاباً طائفياً وامتدادات لأذرع إقليمية ودولية في وطنه وعودة مشؤومة لوجه التطرف القبيح لينشر الرعب والموت والنكوص.

انكفأ جورج وظنّ البعض أن موقفه مناوئ للثورة بدون أن يدركوا أنه ذو روح ثورية لا يملكون القدرة على أن يمتلكوا جذوة صغيرة منها.

فقد ثار على ما عدّه خزعبلات في دروس الكاهن في الكنيسة إبّان مراهقته وقرر ألا يكون مسيحياً بعدها، وثار على نظام البعث الذي انتمى إليه قبل استلامه للسلطة واستقال منه بعد انقلابه العسكري، ولم يكترث بنبذ رفاقه البعثيين له في المعتقل عندما سخّف قناعاتهم الرجعية عن جريمة الشرف وفضّل الانعزال في زنزانة انفرادية.

وثار على ما يعرفه ويكوّن ثقافته بتحفيز غير مقصود من المفكر المغربي محمد عابد الجابري عندما قرأ كتاب الأخير” تكوين العقل العربي” وأثنى عليه ثم اكتشف تناقضاته ومخاتلته للنصوص، فعقد العزم على مراجعة التراث الإسلامي واليوناني والمسيحي  وهي مراجعة أنتجت موسوعة في نقد مشروع الجابري لم تكتف بكشف ما عدّه جورج تحريفاً للنصوص وتزويراً للشواهد، وإنما فنّدت تفضيل الجابري المتحيّز للمغرب على المشرق، ونقضت اتهامه للغزالي بإنكار السببية ولإخوان الصفا بمعاداة المنطق، واتّهامه للغة العربية بالقصور عن مجاراة العصر لأنها من صنع الأعرابي صانع العقل العربي و الذي لا يدرك عقله الاتصال لأنه ابن الصحراء التي يسيطر عليها الانفصال، وما ينتج عن ذلك بحسب زعم الجابري من ضعف العرب في الهندسة القائمة على الاتصال وبراعتهم في الجبر القائم على الكمات المنفصلة.

قبل ذلك عرّف القارئ العربي على فرويد والتحليل النفسي عبر الجهد الذي بذله في ترجمة مؤلفات فرويد، والتي لولاها لبقيت المكتبة العربية بدون فرويد وبدون تحليل نفسي.

ثار جورج على المسلّمات في التراث وتحدّث عن إسلام القرآن وإسلام الحديث، وعلى ما أحدثه هذا التحول الموازي لانتقال من إسلام الرسالة إلى إسلام الفتوحات من تضخّم في المدوّنة التشريعية العابرة للمكان والزمان وجمودها واستعصائها على التطور منذ القرن الخامس الهجري، الأمر الذي جعلها ممانعة للحداثة.

كان جورج ثائراً بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى عندما حلّل أزمة المثقفين العرب تحليلاً نفسياً راقياً وشجاعاً وشخّص حالتهم بأنها حالة عصاب جماعي محاولاً بكفاءة استقصاء أسباب هذا العصاب وطرق علاجه، وكان ثائراً عندما حاول تأصيل العلمانية في التراث العربي باكتشاف بذرتها في سيرة النبيّ وبالعثور على لفظ علماني في القرن الرابع الهجري عندما استخدمها ابن المقفع المصري معبّراً بها عن الرجل المشغول بأمور الدنيا أو بمعنى آخر من ليس راهباً.

أكّد جورج ضرورة العلمانية لأنها في نظره الحلّ للصراعات الطائفية والاقتتال المذهبي والطريق المفضي إلى الخروج من حالة التردّي التي يعيشها العالم العربي.

لم نتفق مع جورج حول تعبير “الديمقراطية في الرؤوس” عبر تطوير العقليات والقضاء على الأمية ومسار التثقيف الطويل والتي لا يمكن بدون تحققها تجسيد الديمقراطية في العالم العربي في رأيه.

وهي رؤية تركز على البعد الثقافوي، وتمنح لمنظّري أنظمة الاستبداد مبرّراً لبقائه وتكريسه وتتجاهل إمكانية انبثاق الديمقراطية في الرؤوس عبر الصراع النبيل وعبر التضحيات العظيمة في سبيل الخلاص من ربقة الاستبداد.

كان جورج ثورة كاملة في أعماله النقدية الغزيرة وفي ترجماته، وحتى في انكفائه الأخير بسبب الإحباط الذي أصابه عقب عودة خفافيش الظلام والمرضى بالطائفية لينشروا الموت والعفن.

لن نستكمل وصفنا كثوريين ما لم نستلهم ما خلّفه جورج طرابيشي عبر عمره المديد الذي لم يكفّ فيه عن النقد والإبداع.

مارس فضيحة الموت يا جورج فنحن لا نزال نمارس فضيحة الحياة كما عبّرت في الإهداء الذي قدّمته لصديقك الجميل “الباهي محمد”.

المجد والخلود لروحك.